طلبت المُدرّسة من تلاميذها كتابة اسماء جميع زملائهم في الفصل على ورقة، وترك فراغ بين الاسم والآخر لكتابة خصال وحسنات كل واحد منهم، وان يسلموا أوراقهم لها لتعيدها لهم في اليوم التالي، وهنا قامت المُدرّسة بتفريغ ما دوّنه كل طالب عن الآخر على أوراق جديدة تتضمن كل واحدة ما كتبه زملاؤه عنه، وقامت بإعطاء كل واحد كشفه الخاص الذي تضمن الخصال الطيبة التي اعتقد الآخرون بوجودها لديه أو لديها، ولاحظت المُدرّسة أن خلال لحظات ارتسمت ابتسامات عريضة على وجوه الكثيرين منهم، مصحوبة بهمهمات ودهشة بيّنت أن الغالبية التي لم تكن تعرف مكانتهم في نفوس غيرهم وما كانوا يعنونه في عيونهم وطيب خصالهم، وكان البعض يعتقد أن لا أحد يهتم به، أو أن له كل تلك المكانة في قلوب كل ذلك العدد!
لم تسمع المُدرّسة بعدها بآثار تلك التجربة، فقد ادت دورها وأدخلت الفرحة على قلوب طلبتها، وأصبح تاريخا بالنسبة لها. بعد سنوات انتشر في المدينة الصغيرة خبر مقتل أحد أبنائها في حرب فيتنام، ولما كان أحد طلبة تلك المُدرّسة ومن المميزين لديها، فقد قررت زيارة بيته لتقديم واجب العزاء لوالديه. وهناك اقترب جندي وسألها إن كانت مُدرّسة زميلهم القتيل، وعندما هزّت رأسها بالإيجاب قال لها إنه كان دائم الحديث عنها! وبعد انتهاء مراسم الدفن ذهب الجميع للقاء «تأبيني» في أحد المطاعم، وتواجد هناك اصدقاء الجندي الفقيد ووالداه، وبعض زملاء دراسته، وتقدم والد الجندي وقال لها: أريد ان اريك شيئا وجد في محفظة ابننا، ربما بامكانك التعرف عليه. وعندما فتحت المدرّسة الورقة المطوية بعناية، بالرغم من أطرافها المهترئة، فوجئت بأنها الورقة نفسها التي سبق ان أعطته إياها وزملاءه الآخرين، والتي احتوت على كل الخصال الجميلة التي رآها الآخرون فيه! وهنا قالت أم الجندي بأنهم يدينون بالشكر لها لدورها الإيجابي في حياة ابنهم، وأن ابنهم كان يعتز بتلك الورقة ويعتبرها ذخرا. وهنا تجمع بقية زملاء الجندي حول المدرّسة، وقال أحدهم بانه لا يزال يحتفظ بالورقة في درج مكتبه العلوي، وقالت زوجة أحد طلبتها إن زوجها طلب منها أن تضع الورقة في ألبوم زواجهما. وقالت أخرى انها تحتفظ بالورقة في محفظة يدها، وانها تطالعها كلما شعرت بالحاجة لرفع معنوياتها، وأنها تعتقد بأن الجميع احتفظ بورقته تلك بطريقة او باخرى، وهنا لم تتمالك المدرّسة الموقف وجلست على اقرب كرسي وانخرطت في بكاء صامت!
الرسالة هنا واضحة، وهي أننا يجب ان نحرص على أن نخبر الآخرين بمشاعرنا ومحبتنا لهم، وأنهم مميزون في حياتنا، فقد يأتي وقت لا نجدهم فيه حولنا لنخبرهم بمدى حبنا لهم. والأمر الآخر أننا كشعوب «متخلفة قسرا» قلما نهتم بتراثنا والقديم من آثارنا، فهذا ما لم نعتد عليه، أو نتعلمه، إن بسبب تراثنا المتخلف أو سيطرة ثقافة الصحراء على عقلياتنا، وبالتالي خلت مناهج الدراسة من مواد تتعلق بغرس قيم المحافظة على التراث والآثار في نفوسنا، فأصبح كل شيء في حياتنا مؤقتا كاشكال تلال الرمال! ومن زار المقدس من الأماكن الأثرية، فوجئ بكم التدمير والإزالة التي طالت تلك الأماكن، وجعلت من المستحيل الاستدلال على أي بيت أو محل طالما تحدث التاريخ عنه، حدث ذلك ولا يزال بالرغم من الدور الذي لعبه هؤلاء في أولئك الذين كان لهم دور في تغيير مجرى التاريخ البشري والديني، وفهمكم كاف، ففي الفم ماء.. كثير!
أحمد الصراف