في يوم لندني جميل، اصطحبت ابنائي الثلاثة، وجدهم الذي كان في زيارة لنا، لحديقة قريبة. أخذ الجد حفيدين وذهب ليتمشى، وبقيت مع الصغير الذي اختار اللعب على «الزحليقة»، فجأة فقد طفلي توازنه من علو ثلاثة أمتار تقريباً وسقط على الأرض الصلبة، وبقي في مكانه من دون حراك، حملته وركضت به كالمجنون الى الشارع أبحث عن مساعدة، ووقفت في وسط الشارع انظر باتجاهيه الخاليين، غير عارف ما علي القيام به، وبعد لحظات خلتها الدهر كله، ظهرت سيارة، وما ان أوقفها ما ارتسم على وجهي من هلع، حتى رميت بنفسي داخلها ورجوته ايصالي لأقرب مستشفى. وتساءلت بيني وبين نفسي: لماذا المستشفى وليس لمكان اكثر حزناً، فما كان متكوماً بين يدي كان بلا حراك ولا نفس، وفجأة صدرت منه أنة خفيفة وسال شيء من فمه فعاد لي الأمل، ولكن يا ترى هل سيبقى سليماً معافى؟ وهنا هاجمتني عشرات الأفكار السوداء وأخذت تتصارع في داخلي تحرقني وتبكيني، كيف سيعيش؟ هل سيصبح طبيعيا وقادرا على المشي والركض والتفكير، أم سيكون هناك عاجز آخر في البيت؟ هل سيعود للضحك معي واضحاكي بابتساماته الآسرة؟ هل سيعود ليطلب مني الهمبرغر والآيس كريم، وتحضير البيتزا له؟ وماذا سأقول لأمه التي تناديه بـ«حبيبي محمد»، وهي التي انجبته بالرغم منها وأصبح الأعز عندها؟ لا ادري متى سنصل الى ذلك المستشفى اللعين، فالوقت يمر ببطء مبك، ولكن ما إن وصلنا لردهة الحوادث حتى انطلقت الى الداخل أطلب المساعدة فتلقفته مني ممرضة وسألتني عن الحادث وجرت به لغرفة الطبيب، وطلبت مني الانتظار خارجا! جلست انتظر، والأفكار والهواجس السوداء تتناهشني، متخيلا أكثر التوقعات سوءا، ولم انتبه الا بعد فترة أن من كان يجلس بجانبي لم يكن سوى من تبرع بإيصالي الى المستشفى، فاعتذرت له عن شرودي وشكرته على مساعدته وطلبت منه أن يذهب لحال سبيله، فرفض، واصر على تجاذب الحديث معي، ربما ليبعدني عن الأفكار السوداء، وسألني عن اصلي وفصلي، ولا ادري كيف أجبته ففكري كان مشوشا. وبعد نصف ساعة، كانت بطول قرن وأكثر أخبروني أن محمد بخير، ولكنه بحاجة لصور أشعة للتأكد من سلامة جمجمته، هنا قدمت الشكر ثانية للرجل ورجوته أن يذهب لحال سبيله، لكنه اصر على البقاء، وقال إنني حتما لن أعرف كيف أعود إلى الحديقة، حيث تركت والدي وطفلي الآخرين! فسكت على مضض! بعد ساعة خرج ابني يمشي مربوط الرأس!
قبل أن نفترق، طلبت من الرجل اسمه وعنوانه لأشكره بطريقتي، فقد كان السبب في انقاذ حياة ولدي الصغير، فتمتم بكلمات غير مفهومة، وذهب لحال سبيله! مر شهران على ذلك الحادث، الذي لم تفارق ذكراه مخيلتي، وفي يوم دعينا لبيت سيدة تعرفت عليها زوجتي في مدرسة الأبناء، وهناك التقيت برجل حياني بحرارة وعندما شعر بأنني لا أعرفه قال إنه الذي أوصلني إلى المستشفى، فعانقته بقوة، واعتذرت منه، وقلت له إنني لا يمكن أن انسى معروفه، وعندما سألته عن علاقته بصديقة زوجتي، قال إنها أخته، وأنه قدم من «تل أبيب» لزيارتها!
يقولون إننا الأصلح والأفضل، وبقية الكون بعدنا، فقلت لهم، ربما، ولكننا متخلفون، والتخلف ليس فقرا ولا قلة انتاج، بل انعدام أخلاق وقلة آدمية!
أحمد الصراف