في يوم قارس البرودة، قررت الذهاب الى وسط مدينة لندن لشراء بعض الكتب. استقللت الحافلة أو الباص الأحمر، وجلست في اقرب مقعد للباب، وهو الجزء المخصص لكبار السن والعجزة ولكنه كان خاليا تقريبا. لففت نفسي جيدا، فقد كان الطقس باردا حقا، وما ان سارت الحافلة بضعة أميال حتى تذكرت أنني في زيارتي الأولى للمكتبة نفسها ترجلت في محطة بعيدة قليلا عنها، واضطررت للسير كيلومترا تقريبا، ولكني اليوم على غير استعداد للمشي حتى لعشر خطوات، خاصة أن المطر بدأ بالهطول. وهنا سألت سيدة كبيرة في السن كانت تجلس بجانبي، لخلو الحافلة من قاطع التذاكر، عن أقرب محطة لــ«مخزن فويلز للكتب»، فقالت لي، دون تردد، بأن علي الترجل بعد محطتين، وهذا ما فعلته، وما ان سرت بضع خطوات باتجاه سير الباص حتى وجدته قد توقف وترجلت منه العجوز نفسها التي سبق ان سألتها، واتجهت نحوي، بعد أن انطلق الباص في طريقه، وقالت: ايها الشاب، وكنت وقتها شابا فعلا، أعتذر لك بشدة، هذه ليست محطتك، بل هي بعد محطتين أخريين من هنا! شكرتها، ووقفت في مكاني أنتظر الباص التالي، واستغربت وقوفها معي، وهي تحمل المظلة بيدها لتقيني من المطر، فسألتها إن كانت هذه محطتها فنفت ذلك وقالت إنها ترجلت من الحافلة لكي لا تجعلني أسير لثلاثة كيلومترات على الأقل في هذا المطر! نظرت لتلك السيدة، التي ربما كانت في الثمانين من العمر وسألت نفسي، لو كنت مكانها وفي سنها هل كنت سأترجل من الحافلة، في هذا البرد والمطر، لأخبر شخصا غريبا واجنبيا، ربما لن التقي به مرة أخرى في حياتي، بأنني أخطأت، وأضحي بدفء الباص؟؟
تذكرت تلك القصة، التي مر عليها الآن أكثر من 44 عاما، عندما قمت يوم 10 يناير بنشر ملاحظة أعلنت فيها عن إقامة «مركز تنوير»، ولا علاقة له بمركز «سيئ الذكر»، ندوة للمفكر إبراهيم البليهي في الجمعية الثقافية النسائية، يوم الأربعاء، 11 يناير، في الوقت الذي كانت الندوة في يوم نشر الملاحظة نفسه، أي الثلاثاء. وفي محاولة متواضعة لسداد ما لتلك السيدة من دين «حضاري» في عنقي، قمت في السادسة والنصف من يوم الاربعاء، 11 يناير، بالذهاب الى الجمعية الثقافية، ووقفت على باب قاعتها بانتظار من سيأتي في ذلك اليوم لحضور الندوة، حسب ملاحظتي، لأخبره بخطئي، وأعتذر له! لم يطل انتظاري كثيرا حيث أتى شخص وأخبرته، بالخطأ وتبعته سيدة وفعلت الشيء نفسه معها، وتركت الجمعية بعد السابعة بدقيقة، فلست مسؤولا عن الاعتذار لمن يأتي متأخرا!
شكرا لك يا سيدتي يا من علمتني كيف أحاول أن اكون متحضرا.
أحمد الصراف