كانت الكويت في سنة جدب، سنة قحط، أو كما يسميها البدو “دَهَر”، وكانت في حاجة إلى قطرة ماء عام 1990، فأمطرت سحابة الشيخ سعود الناصر الصباح، سفير الكويت في واشنطن، فأحيت الأرض، وتراقص “النوّير” على إيقاع الخزامى والنفل والشيح بروائحه العطرية. وبعد التحرير عادت غيمة “أبي فواز” إلى صحراء الكويت، وواصلت “همّالها” بلا برق ولا رعد، تسقي بصمت، فامتلأ قلب السراب حقداً وغيرة، فأرسل إلى الريح “أزيحي هذه الغيمة” فأزاحتها، فتبسم الخريف، وتجهم الربيع. هاتفته ذات صباح: “أين أنت؟”، فأجاب: “في البيت، تعال لنشرب القهوة”… وعلى رائحة الهيل بادرته: “اكشف لي مخازن صدرك وحدثني عن أحداث الغزو”، فتبسم قبل أن يعتدل في جلسته ويشرع في سرد الوقائع دون أن ينسى أن يتمنى علي أن تبقى الأمور في الصدور والأسرار في مخازنها، فعاهدته، فتحدث… قال وقال وقال، وكان يذكر أخطاءه وأخطاء الحكومة في الغزو قبل أن يذكر المحاسن، كان صادقاً، كما أحسست. الحديث عن أبي فواز برائحة الشيح، لكن الموقف يتطلب الصمت. رحمك الله يا سعود الناصر، وألهم الأسرة الحاكمة وعائلتك الصغيرة ومحبيك الصبر والسلوان، وعظم الله أجركم جميعاً.
اليوم: 24 يناير، 2012
عندما يموت الأطباء
الجميع يرغب في العيش بكرامة، وحتى في الموت بكرامة! ولكن عندما يحين الوقت تتشبث الغالبية بالحياة وتفعل المستحيل للبقاء على قيد الحياة، أو إبقاء مرضاهم، الميئوس منهم، أحياء ولو ليوم، متناسين الكرامة واللياقة، وهذا أمر طبيعي مع الجميع تقريباً، ولكن ليس بالضرورة مع الأطباء، وإن بشكل عام، فهؤلاء عادة لا يلحون على إبقاء أنفسهم، أو مرضاهم، الميئوس منهم، على قيد الحياة! وهنا يقول الدكتور الأميركي كن موراي إن زميله «شارلي» شعر يوماً بآلام داخلية حادة تبين منها أنه مصاب بورم سرطاني متقدم في البنكرياس! وعلى الرغم من أن الذي شخص مرضه كان الأشهر في مجاله، وصاحب اختراع طبي يطيل به عمر المصاب بنسبة لا تقل عن %15، وإن بمستوى معيشة بائس، فإن د. شارلي اختار إغلاق عيادته، والتوقف عن مراجعة الأطباء، وقضاء ما تبقى له من عمر مع أسرته! وبعد بضعة أشهر مات في فراشه بهدوء وسلام، وبكامل كرامته، دون علاج إشعاعي ولا كيميائي، ولا حتى جراحي! ويضيف د. موراي أن الأطباء مثل غيرهم يموتون أيضاً، ولكن تجاربهم الطبية جعلتهم أكثر هدوءاً وتقبلاً للمرض، وحتى للموت، لأنهم يعرفون بدقة ما سيحصل لهم في مرضهم، والمراحل التي سيمرون بها، ويعلمون بخياراتهم، وبأنهم سيتلقون أفضل رعاية من زملائهم، إلا أن أعداداً متزايدة منهم أصبحت تختار الموت بكرامة ولياقة وهدوء، هذا مع أنهم ليسوا بشوق للموت، ولكن ما يعرفونه عن الطب الحديث ومحدودية تأثيره دفعهم لتقبل الأمر وحث زملائهم وأسرهم لوضع حد لحياتهم، متى حان وقت رحيلهم! فهم على غير استعداد مثلاً، عند إصابتهم بذبحة صدرية، وفقدهم للوعي وتوقف القلب عن القيام بوظيفته، لتعريضهم لأمور مثل الصدمات الكهربائية، أو إعطائهم CPR، وما قد ينتج عنه من كسر ضلوع في محاولة لإعادة الوعي لهم بدفع الدم لأدمغتهم، إضافة لما سينتج عن ذلك، إن نجحت الصدمات الكهربائية أو ضغطات اليد المتتالية، في مكوثهم بغرف العناية المركزة، شبه أحياء، بمساعدة معدات طبية، قبل أن يموتوا في النهاية بطريقة متعبة ومذلة لهم ولأهاليهم، فليس هناك أسوأ من تثقيب جسد المريض وإدخال الخراطيم الطبية الدقيقة فيه، وتسريب الأدوية والأغذية له من خلالها، وبمساعدة أجهزة معقدة تعمل ليلاً ونهاراً وبإشراف طبي دقيق، كل ذلك على أمل أن يعود يوماً للحياة الطبيعية، وعلى حساب مرضى آخرين أكثر لتلك الخدمة منهم.
ويستطرد د. موراي بالقول إنه لا يستطيع أن يحصي عدد الأطباء الذين طلبوا منه العمل على إنهاء حياتهم في حال تعرضهم لذبحة صدرية قاتلة، وكيف أنهم طلبوا من أهاليهم فعل الشيء ذاته معهم، وأن يتركوهم ليرحلوا بسلام وكرامة، فهم أدرى من غيرهم بما يعنيه بقاؤهم نصف أحياء، والآلام تفتك بهم ولا يستطيعون قول شيء أو فعل شيء إزاءها.
هذه وجهة نظر يسهل الحديث فيها، ولكن الذي يده في النار ليس مثل غيره، فمعذرة إن كان في كلامنا تجريح لمشاعر أحد، فالحياة ليست دائماً زهوراً يانعة وأطفالاً رائعين ومناظر خلابة وسفراً سعيداً، بل هي أيضاً معاناة ومرض وآلام وحزن!
أحمد الصراف