الحبل في هذه المقالة على غارب القلم، سأدعه يقودني إلى حيث يشاء فقد تعبت من القيادة، وحان دوري لأن أريح الكرسي إلى الخلف، وأضع غترتي على عيني، وأتمدد، وأغط في بحور السكينة.
وسحقاً للنساء، فحديثهن كالشِّعر، أعذبه أكذبه، وحديثنا عنهن كالسيجار، ممتعٌ مُضِر. وتباً لتلك الحسناء، ذات الحسن الذي يستدعي الاتصال بالشرطة.
وكنا وكانت الأيام، وكانت رحلتنا إلى لندن، أو “لندرة” كما يسميها عمنا الكبير محمود السعدني، رحمه الله، وكانت الميزانية تتطلب التقتير حتى في التدخين، وكنت يافعاً متحفزاً للخناق والصعلكة والصياعة، وكان “الشنب” على وجهي في بداية رحلته العملية، لم أتسلم منه إلا العربون، الدفعة الأولى فقط، بضع شعيرات، وكنّ يجلسن بالقرب منا، أو كنا نجلس بالقرب منهن، ستّ صبايا أو سبع، لا أتذكر، ولا يهم، الذي أتذكره بشدة أن جمالها هي وحدها موجع، وقوامها قاتل، وضحكتها إعلان حرب عالمية، سحقاً لأبيها وأمها، ولكل القتلة المجرمين.
وكنت ساهياً، في بداية الأمر، لاهياً، مشغولاً بالفراغ، فرأيتها، فخنقتني العبرة، وتمتمت بلا وعي: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ثم التفتّ إلى الطاولة الأخرى فرأيت خرتيتاً تسلل خلسة تحت غطاء الليل وزوّر في الأوراق الرسمية فأصبح من بني البشر، يجلس بغرور تاجر الخضراوات في موسم الحصاد، يغازلها ويسبّل عينيه لها، وجنتاه المنتفختان تتحرشان بكفّي وتستفزانه، وعلّق صديقي: “ملابسك التي ترتديها، والتي اشتريتها من سوق الفحيحيل، لا تسمح لك حتى بمغازلة خادمتها، فاحترم نفسك”، فتفقدت ملابسي، وتفقدت ملابس الشبان في الطاولات المحيطة، فاحترمتُ نفسي وأطرقت وأنا أكابد الغرغرة، لكن عينيّ لم تحترما نفسيهما، وراحتا تسيران على أطراف أصابعهما إلى حيث تجلس ابنة القتلة.
والتقت الأعين، أي وربي، ويا للهول، فعلَت هي كما فعلت أنا، وراحت ترسل عينيها على أطراف أصابعها إلى حيث أجلس، ويا لأم الهول، تبادلت أعيننا الالتقاء طوال الجلسة، وبدأتُ مشوار بلع الريق، وفقدت السيطرة على تفاحة آدم، التي راحت تمشي على حل شعرها في رقبتي بلا حسيب ولا رقيب، ثم فجأة، نهضت، ابنة القتلة، مع صويحباتها، فوقع قلبي على الأرض، لكنها تبادلت الهمس مع إحداهن، فاستدارتا واقتربتا من طاولتنا، ورفعت صويحبتها صوتها لبقية البنات، كي يسمعنها، أو كي نسمع نحن: “سنكون في المطعم الفلاني الساعة تسع، تعالوا لنا هناك”، وابتسمَت، فخيّم على طاولتنا الصمت للحظة، قبل أن يرتفع صوتي بالغناء ويردد خلفي أصدقاء السوء والفقر والصياعة، بصوت كان بالتأكيد سيُغضب عبدالحليم حافظ وصديقه الشاعر محمد حمزة، رحمهما الله: “ميّل وحدف منديلو، كاتب على ظهرو أجيلو”، فهرولت وصويحبتها مبتعدتين.
وقبل الموعد بأكثر من ساعة، كنا على باب المطعم الفاخر، أنا وزمرة الصعاليك، ننتظر الغيث، وجاءت، متلحفة بحسنها وحيائها…
وقبل أيام، توصلت إلي، وبادرتني، ما إن دخلت إلى مكتبي، بكل أنوثتها وبلهجة فيروز: “كيفك، قال عم بيقولوا صار عندك أولاد؟”، فأجبتها، وأنا أتمعن كمية حسنها الهائلة، بكل دفاشتي وبدويتي: “شابت لحانا يا بنت”، ثم أفصحَت لي عن سبب زيارتها: “جئت لأسلم عليك بعد أن رأيتك في التلفزيون”، وأضافت: “أنا لا أتابع الشأن السياسي مطلقاً، فأشِر علي، لمن أمنح أصواتي الانتخابية في الدائرة الثالثة؟”، فأجبتها بسرعة: “بالتأكيد ليس لفلان ولا فلان ولا فلانة”، فعاجلتني بغضب بنات الأصول: “سامحك الله، وهل كنت تظن أنني بهذا المستوى؟”، فتضاءل صوتي خجلاً واختفى، فغيّرَت مجرى الحديث وهي تخفي ثغرها بأناملها لشدة ضحكها: “محمد… هل تتذكر، ميّل وحدف منديلو؟”.
وغادرت مكتبي إلى حياتها، حيث لا سياسة…
اليوم: 22 يناير، 2012
كلام في الممنوع
في البدء كثر اللغط والكلام عن نتائج استفتاءات دائرتنا الثالثة، والحقيقة التي يجب ان تقال هي ان تلك الاستفتاءات لا تصدر عن جهة محايدة مراقبة من الدولة، كما ان سجل نتائجها للانتخابات الماضية لا يدل على الصحة او الدقة على الإطلاق ولم توضع على شكل جداول تتوقع الفائزين من الواحد حتى العشرة كي يمكن مقارنتها مع النتائج النهائية للانتخابات، بل وضعت بطريقة يغلب عليها العموم عبر اختيار أكثر من عشرين مرشحا محتملا للفوز في كل دائرة وهو أقرب لحال تنبؤات المنجمين مع بداية كل عام والتي تتكلم عن كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته.
****
ولا يمكن معالجة المرض دون «التشخيص الصحيح» للحالة وعليه أقول ان ما يشتكى منه في الدائرة الثالثة هو «رد فعل» وليس «فعلا» بذاته لسنوات طوال من استقصاد شريحة كبيرة من الكويتيين بالشتم والتجريح (سراق، كلاب.. إلخ) واستقصاد وزرائهم ومسؤوليهم بالاستجوابات الكيدية القائمة على «الهوية» لا «القضية» والتي يتعرضون من خلالها هم وعائلاتهم للإهانات لدغدغة أصوات بعض الناخبين ودون النظر لمتطلبات الوحدة الوطنية، في وقت يتم السكوت فيه عن مسؤولين آخرين كانوا يتجاوزون جهارا نهارا على المال العام.
****
والحقيقة لم يكن البعض من مرشحي دائرتنا الثالثة، شديدة التسامح والرقي والتي تنجح وتوصل للبرلمان عادة كل ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي الكويتي، يأمل في حصد حفنة من الأصوات كي يحلم هذه الأيام بحصد أصوات الآلاف للوصول للكراسي الخضراء، ان ظاهرة مناطحة الصوت بالصوت، والأذى بالأذى والشتم بالشتم والصياح بالصياح هي نتاج لممارسات خاطئة تراكمت في مجالس ما بعد عام 1992 واعتمدت على دغدغة المشاعر المتعصبة والمتخندقة للفوز حتى لو دمرت وحدتنا الوطنية، وها نحن ندفع ثمن تلك الممارسات الخاطئة.. المستمرة.
****
والمؤسف بحق ان من يلوم تصدر بعض مرشحي الدائرة الثالثة غير المثبت وغير الحقيقي، حيث يتم انتقاد هؤلاء المرشحين في أغلب دواوين الدائرة ومن سيخذلهم على الأرجح ناخبو الدائرة يوم الانتخاب هم ذاتهم من يصدر ويحمل على الأعناق من يشتم أبناء الكويت بالاتجاه الآخر ويصفهم بأرذل الصفات والأسماء من سراق وكلاب.. إلخ، وفي هذا السياق، لماذا يشتم الشيوخ والتجار الفاسدون فقط بدلا من انتقاد الفساد بشكل عام دون تخصيص مخل أي انتقاد الوزير الفاسد والنائب الفاسد والدكتور الفاسد والتاجر الفاسد والطبيب الفاسد والإعلامي الفاسد والموظف الفاسد.. إلخ، ان المهم ليس ما يرسل من كلمات نارية في الندوات الانتخابية بل كيفية استقباله من قبل الآخرين من شركائنا في الوطن.
****
وكلمات نضعها فوق المجاملات، وهي ان مستقبل الكويت ووحدتها الوطنية يفرضان استحقاقات مهمة على الجميع، ومنها إصدار قانون «تجريم دعوات الكراهية» ووقف الفرعيات والتشاوريات المحرمة شرعا والمجرمة قانونا خوفا من ان تنتقل آجلا أو عاجلا الى الدوائر الثلاث الأولى كوسيلة للانتقام والتعامل بالمثل مادامت لا تلقى العقاب المناسب، ان الوحدة الوطنية على محك الاختبار يوم 2/2/2012 حيث تجرى أخطر انتخابات في تاريخ الكويت فإما إبعاد وإسقاط كل من يقتات على فرقتنا وتشتتنا ودغدغة أحط مشاعرنا في كل الاتجاهات، أو إنجاحهم واستبدال مشروع التعمير والإنماء الذي نحلم به بمخطط التدمير وإسالة الدماء القادم لا محالة.. والخياران في أيدينا لا في أيدي الآخرين.
****
آخر محطة: صديق شيعي مقرب جدا تظهر مواقفه المعلنة وطنية كويتية خالصة ندر ان نجد مثلها عند السنة أو الشيعة قال لي بأسف وأسى شديدين انه مضطر هذه المرة وفي ظل التخندقات السافرة لأن يصوت لأربعة مرشحين شيعة وهو أمر لم يقم به قط في الماضي، لا سامح الله المتخندقين والمؤزمين والفاسدين على ما فعلوه في وطننا المعطاء وتدميرهم لكل حسن وجميل فيه.
التخريب المتعمد
في تصرف يفتقد المسؤولية، وتكرر ما يماثله عشرات المرات، وفي حالة انعدام تام للاحساس بما يمثله بث الفرقة بين أبناء المجتمع من خطورة، تم توزيع كتيب يحث على مقاطعة الانتخابات ومعاداة الشعوب الأخرى والدعوة لغير ذلك من سقيم الآراء.
لا أتكلم هنا بلسان «شريف مكة» ولا أدعي العفة والطهارة، ولكن من حقي ان أطالب بالحد الأدنى من الذوق في التعامل مع الحساس من القضايا وعدم تشجيع المعتوهين والرعاع من المواطنين على نشر السقيم من أفكارهم، خصوصاً تلك التي يمكن ان تترتب عليها تبعات خطرة.
موضوع هذا الكتيب الغريب ذكرني بمقال كتبه قبل فترة قصيرة الزميل الأردني جهاد علاونة بعنوان: هل من حقي اختيار ديانتي؟ يقول في مقدمته: اسمي وموطني وديانتي لم اخترها، على الرغم من ان بامكاني، قضائيا، تغيير اسمي، ولكنه عاجبني ولست معترضاً عليه، أما الوطن فليس بمشكلة أيضاً، فكل بلاد العرب أوطاني! انما الدين الذين ولدت ونشأت عليه هو الذي.. شو بدي أحكي! فأنا لا أريد القول انه مش عاجبني، وانما هو اللي مش عاجبه أحد، ومش عاجبه أن أعيش مرتاح، ومش عاجبه ان أنعم بالحياة، ومش عاجبه ان أعيش بكرامة، هذا الدين هو اللي ماشي ضدي ولستُ أنا من يمشي ضده، أنا والعذرى مش ضد الدين، بس هو اللي ضدي أينما أذهب واينما أتجه بفكري ومهما كانت أفكاري فهي لا تعجبه! فان دعوت لأي شيء يعارضني، وان دعوت للاصلاح يعارضني، وان قلت نحن نريد مؤسسات مجتمع مدنية في الأردن يعارضني، اذاً هو الذي يقيم تعارضاً بين ما يحلم به المواطن العربي وبين ما يريده ان يكون عليه، ولو ان الحكومات العربية تعرض كل الأديان على الشعوب العربية، كما عرض القيصر الروسي كل الأديان على كل الشعوب السوفيتية (يقصد الروسية)، وقال لهم انتم احرار في اختيار الدين الملائم لكم، لربما اخترنا، نحن العرب، ما اختاره الروس! انتهى الاقتباس بتصرف.
والآن ما الذي يدفع هذا الكاتب لأن يكتب هذا الكلام، ويدفع مئات الآلاف المماثلين له للتخوف من الدين والتعامل معه بحذر، والخشية من كل ما له صلة به، أليس لما ينشره البعض من أفكار متطرفة ومعادية للإنسانية والتسامح والمحبة والعيش بسلام مع الآخر؟ أليس لأن كل ما يبثوه معاد لكل المشاعر والأحاسيس الطيبة؟ وهل يتخيل هؤلاء المتطرفون الدينيون بانهم، بتشددهم الديني وتهديداتهم بالعذاب والنار، يمكن ان يكسبوا قلوب العامة، ويجعلوها مؤمنة؟ وما الفائدة من شعب كامل من الخراف الخائفة التي قبلت الدين خوفاً وليس اقتناعاً؟ ولماذا نربط الدين بالعداء للديموقراطية والحرية والتفاهم والمحبة؟
نعود ونقول ان الشرهة، أو المسؤولية، لا تقع فقط على المعتوهين الذين يصرفون على طباعة مثل هذه المواد، بل على من يقوم بتوزيعها ونشرها وتسويقها والترويج لها والتعامل معها وكأنها مواد دعاية لصابون غسيل أو معجون حلاقة!
أحمد الصراف