سيدة السنوات هي بلا منازع. كالعاشقة جاءت إلى عشيقها محملة بكل أنوثتها، وغادرته وفي قلبها غصة، وفي جسمها بقايا عطاء. الوقت لم يسعفها لتنثر كل ما لديها بين أحضانه. جاءت بعد 2010، السنة البليدة الكئيبة المظلمة الرطبة، ففتحت النوافذ وابتسمت في الضوء، وارتدت قميص حبيبها على جسدها العاري فكساها إلى نصف فخذيها، وربطت شعرها خلف رأسها، وأعادت تنظيف الصالة، ونثرت في الزوايا الزهور، ورشت العطور، وفتحت المذياع على صوت أم زياد: “تك تك تك يا أم سليمان، تك تك تك جوزك وين كان، تك تك تك كان في الحقلة، عم يزرع خوخ ورمان”، وراحت خطواتها تتكتك وتتقافز وتتراقص كعصفورة الحقل… حافية القدمين. 2011، آثار أقدامها وبقايا عطرها وصدى ضحكاتها، لن تزول… لن تموت. سيدة السنوات هي بلا منازع. دخلَت إلى قاعة الحفل دون أن ينتبه إليها أحد فصمت الضجيج، وأصدرت الأعين أوامرها إلى الرموش بنبرة قائد عسكري “ثاااابت”، فثبتت الرموش، وانسحبت الجهات الأربع، وباتت هي الجهة الوحيدة. كانت 2011 فاتنة الحفل، أو “فتنة الحفل” كما قال شاعر الجنون فهد عافت، في قصيدته التي صنفها البعض “أفضل قصائد الغزل في عصرنا الحالي” عندما وصف معشوقته وهي ترقص “ارقصي بين حد الذنب والمغفرة، وارحلي في سكونك واسكني في الرحيل / وارجفي كنّك* الماء فززته احْجرة، واثبتي كنّك الفضة بعين البخيل/ وانحني مثل غصنٍ في طرفْه اثمرة، واوقفي مثل فزعات ابدويٍّ أصيل / وإلفحي** علمينا كيف تقدر مَرَة، تزرع الليل صبح وتزرع الصبح ليل”! الله الله الله عليك يا عافت. 2011 أوّاه، وقفتُ أمامها كمصور محترف يجيد التقاط الصور، الثابتة منها والمتحركة، تراجعتُ خطوتين لأنتقي الزاوية الأجمل، وانحنيت إلى الخلف لأقيس المسافة الأفضل، فاحترت (أو كما في الفصحى… حرت)، قبل أن أرمي كاميرتي على الأرض وأركلها بكل طيشي، وأصفق على إيقاع خُطاها… وبالطبع، لا يمكن للمصور التقاط الصور ويداه تصفقان. 2011، مزّق العرب قميصها من دبر، لفرط حسنها، فمزقت هي قمصان الطغاة، وأسقطت تيجانهم، وأطفأت نيرانهم… وهربت تضحك بغواية. 2011، غادرتنا قبل أن نهز فناجين قهوتها، وغابت… ولا نامت أعين 2010 وما قبلها. * * * * كنّك: كأنك… والشاعر، لمن لا يتحدث الخليجية، يطلب من تلك الصبية أن ترتجف في رقصتها كما يرتجف الماء الذي رُميت فيه حصاة. ** إلفحي: هزي شعرك بقوة (طريقة رقص قديمة ما زالت موجودة)… وضعت الهمزة في كلمة إلفحي مضطراً لتوضيح طريقة النطق.
اليوم: 3 يناير، 2012
مبدعوهم ومشعوذونا
يوصف جي غرينبرغ بأنه واحد من أذكى الأشخاص الذين عرفتهم البشرية في السنوات الـ 200 الأخيرة، فقد وضع حتى الآن خمس سيمفونيات كاملة، وهو لم يتجاوز 12 من عمره. يقول جي عن نفسه إن الموسيقى تملأ رأسه، ويتخلص من إلحاحها بكتابتها، وهو لا يعرف كيف يعمل عقله ومن أين يأتيه الإلهام، ولكنه يعرف أن المقطوعة تأتيه كاملة، وكأن أوركسترا تعزفها في عقله! ويعتقد أحد خبراء الموسيقى بأن جي لا يقل في عبقريته عن مندلسون وموزارت.
نشأ جي في اسرة عادية لا علاقة لها بالموسيقى، ولا تعرف عنها شيئاً. وتقول أمه انه بدأ، وهو في الثانية من العمر، بكتابة نوتات موسيقية، وكان يرسم آلاتها، ويطلب من امه شراءها له، وعندما أخذته إلى متجر الآلات الموسيقية أمسك بآلة «شيللو»، وبدأ العزف عليها بطريقة متقنة، بالرغم من أنه لم يشاهد ما يماثلها اصلا. وفي سن الثالثة بدأ جي بكتابة مقطوعات موسيقية، وكان الوحي يأتيه في أي مكان أو أي لحظة! موهبته، والذي لم يتجاوز العاشرة، دفعت ولاية نيويورك للصرف على دراسته من خلال منحة، وكان يحضر فصول الموسيقى مع من يكبروه بعشر سنوات، وقريبا سيسمع العالم أكثر عن هذا الصبي الموهوب الذي لا يتردد العظماء وكبار رجال الدولة في الوقوف له والتصفيق بحرارة لموهبته العظيمة. ولو كان جي غرينبرغ كويتيا لما تردد أهله في عرضه على الدجالين ومفسري الأوهام، لإخراج شيطان الموسيقى منه، أو ربما كانوا سيلجأون لكيّه، أو حتى عرضه على مشعوذ يقوم بضربه لإخراج الجن منه، وسيموت تحت الضرب، كما حصل مع مشعوذ شهير تسبب ضربه لمريض بوفاة المسكين تحت يده، ولكن الدجال نفذ من عقوبة السجن التي صدرت بحقه، بفضل وقوف «سلفه وتلفه» وراءه وامامه، وربما على جانبيه.
وبهذه المناسبة أخبرني صديق بأنه تسلم من مدرسة ابنته رسالة تطلب منه التوقيع عليها، بما يفيد موافقته على تدريسها الموسيقى! عاشت التربية وعاش المليفي وزيرا أبديا لها، وعاش التخلف، ومات كل من عارض ذلك، وبالامكان الاستماع للمعجزة جي، من خلال الرابط: http://wimp.com/musicprodigy
أحمد الصراف