كما هي مدينتي/ موطني الكويت مدججة بالفوضى في كل زواياها، أعيشُ مدججاً باللخبطة وبتراكم الأفكار غير المرتبة في كل زواياي.
غداً سأموت، أو بعد غدٍ، على أقصى تقدير وأبعد تفاؤل، فهل جازيت مدينتي بما جازتني به؟ هل سأموت مرتاحاً؟
كنت صغيراً أعيش في منطقة تقع قريبة من الاهتمام، اسمها “العمرية”، وغادرتها صغيراً، قبل أن أعرف العشق والحرف، إلى منطقة تقع خلف الاهتمام، اسمها “الصباحية”… وفيها تعلمت الهوى ومداعبة خصلات شعر تلك الصبية، وتعلمت الصياعة، والتدخين في الأماكن القصية بعيداً عن الشمس التي تشهد جلودنا على حضورها وغيابها، وتعلمت التحدي، وتعلمت الجري حافي القدمين، وتعلمت الكويت.
وُلِدتُ لأبٍ من النوع الذي يجب أن تقرأ الوصايا العشر قبل أن تجالسه، كان الفارق في السن يناهز الستين سنة والستين ثقافة والستين مبدأ والمليون أولوية، فلا ترفع كم ثوبك في حضرته، ولا تجلس، إذا جلست، إلا متأهباً لتلقي أوامر كبار السن، ولا تتحدث إلا عندما تُسأل، ولا تطل الإجابة، ولا تقهقه فالقهقهة للرعاة والعبيد، الابتسامة تكفي وتزيد، ولا تزحم المكان، ولا ولا ولا… كان ينثر لاءاته الناهية التحذيرية ببذخ، وكنا، أخوتي وأنا، نذعن بإتقان، فلا مجال للتحايل على لاءاته أمام حاجبيه المتحفزين على الدوام، إلا ما ندر… كان يرعب شوارع المنطقة فكيف بمن يشاركه البيت.
قال يوماً: “لن نجزي الكويت حقها ولو “حججناها” على ظهورنا… نقلتنا من الخيام والجوع إلى البيوت والشبع”، ومن يومها وأنا أهيم عشقاً بتلك الكويت التي آوت والدي وأشبعته. وقال ذات طريق سفر: “لا ينكر معروف الكويت إلا خسيس”، ومن يومها وأنا أخشى أن أكون خسيساً.
قد أكون أغضبت الكويت، من جملة من أغضبها من أبنائها. لا أعلم. الأكيد أنني كلما رأيت من يتكفل بإحضار الماء من البئر وحباله قصيرة، صرخت: “حباله قصيرة لن تصل إلى الماء… ستموت الكويت عطشاً”.
قد أكون أغضبت الكويت، من جملة من أغضبها من أبنائها، لا أعلم. الأكيد أنني أغضبت أقربائي لأرضيها، وخاصمت سراق الربيع والمطر ليعيدوا إليها ربيعها ومطرها… قال السراق ذات إغراء وإغواء: “المطلوب هو صمتك فقط، ولك منا ألا تستنشق إلا رائحة الخزامى البرية، وألا يبلل كفيك إلا قطرات مطر نقية، وألا يملأ بساتينك إلا فراشات ملونة، أو فلتحسب حساب الجراد”… وحسبت حساب الجراد.
عذراً يا كويت إن كنت أغضبتك أو ساهمت بجزء من الفوضى، من غير قصد… يشهد الله أنني لم أقطع عرقاً كويتياً بسيف: “من أنتم؟”، ولم أسع يوماً إلى نهش لحمك تحت شعار: “نريد أن نأكل معكم”، ولم أفاخر يوماً أن آبائي، أيام الغبار والدم، كانوا من بين جنودك الذين رفعوا “بيرقك”، في وقت كان فيه آباء البعض يجلسون على الموائد يتقاسمون “الذبيحة”… وكان نصيب أولئك الغبار والدم، ونصيب هؤلاء الذبيحة.
عذراً يا كويت فقد أصررتِ – أنتِ – على أن أكون “حضرياً”، وأصررتُ أنا على أن أرد جزءاً من جميلك بـ”بداوتي” وفوضويتي، كي لا أكون خسيساً في عينيك وعيني المرحوم… والدي.
عذراً يا كويت… وماري كريسميس.