يغني العاشق الأكبر، نزار قباني، في رائعته “من مفكرة عاشق دمشقي”: “ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا”، وأغني أنا بعد التحريف والتصريف: “ما أجبن الحرف إن لم يُسقط الرتبا”.
ويقول العارفون: “الخارق، هو من يخرق قوانين الطبيعة”، فالطبيعة، وهي الطبيعة، لن تحترمك إن أطعتها وأذعنت لأوامرها وانقدت لها كالخروف. خذها مني، الطبيعة امرأة، والنساء لا يلفتهن الباحث عن رضاهن. الطبيعة تبحث عمن يهز كتفيها، فهزهما كي تهتز لك، وإذا أردت تقبيل عنقها فلا تحشر رأسك بين رقبتها وحنكها، بل شد شعرها ليرتد رأسها إلى الخلف وينفتح “ملعب العنق” أمامك لا أم لك. الطبيعة أنثى، والأنثى تبحث عمن يُشعرها بأنوثتها، ولا تشعر الأنثى، السوية، بأنوثتها إلا في حضرة “المتمرد”.
اكسر واجرح وانزع وامزع وعالج وافعل كل ما هو غير عادي، فإذا لم تُغضب هذا وتُفرح ذاك، وتُبكي هذا وتُضحك ذاك، فلا تُتعب الأقلام ولا تزحم الأوراق ولا تشغل الحروف.
التفت وراءك إلى التاريخ واسأله: “هل خلّدت (العاديين)؟” وسيجيبك مستنكراً: “لا وقت لدي للحشو”.
تطرق أذنيك عشرات الآلاف من القصائد، ولا شيء منها يبقى ويستقر، كلها تمر كما تمر القوافل، باستثناء “القصائد المتمردة”… وتملأ عينيك ملايين المناظر، ولا شيء منها يبقى ويستقر، كلها تمر كما تمر السيارات على الطريق العام، ما عدا المناظر الخارقة… تدخل في حياتك عشرات الصبايا، ولا واحدة منهن تبقى وتستقر في ذهنك، إلا “الصبية غير العادية”، تلك فقط، لا غيرها، تبقى وتُبقي مكانها محجوزاً خلفها في الذاكرة والوجدان، لا تسقط بالأقدمية… وتمتلئ الصحف بالأخبار والمقالات، ولا شيء منها يبقى ويستقر، ما خلا “الأخبار الثائرة والمقالات المتفجرة”.
وعودة إلى نزار وقصيدته ذاتها، عندما يعلن فيها بصيغة السؤال، وهو يحض العرب على حمل البنادق لا الكتب دفاعاً عن فلسطين: “متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟”، سامحك الله يا نزار، كل هذه الدماء التي تسيل من الحروف لم تلفتك؟ كم من كتاب متفجر، وكم من كلمة متشظية، وكم من سطر حارق، وكم من حرف خارق، وكم من فاصلة فاصلة، كل هذا لم يُثِرك؟ ليتك سألت كتبك وكلماتك وحروفك وفواصلك، أو كتب أحمد مطر وكلماته وأبياته وحروف قصائده قبل أن تكتب هذا الشطر.
أيا نزار، إن لم تكن تعلم فاعلم أن “أبا نواس” لم يكن ليخلد في أذهاننا لولا حروفه وقصائده، وهو الوقح الشاذ الشحاذ، الذي وُلِدَ لأم بغيّ، وترعرع بين العاهرات وفتيات الليل اللواتي كانت أمه تجمعهن في بيتها للباحثين عن المتعة بمقابل، وانتسب – أبو نواس – لأبٍ لا يُعرف أبواه، وأدمن الخمر ووو، ولا مبادئ له ولا أخلاق، ومع ذا هو خالدٌ في أذهان أهل الأدب وسائر العرب، فقط بسبب حروفه وكلماته، في حين تلاشى الملايين من حملة البنادق.