قصتي مع الزميل محمد الصقر، النائب السابق وناشر هذه الجريدة، ليس لها أن تمر إلا من خلال رئيس التحرير خالد هلال المطيري، عندما اتفقنا أو قل «توافقنا» على أن أحمل عمودي الصحافي و»أركزه» هنا.
يومذاك، كانت سفننا تبحر في الاتجاه ذاته، كما يقول الطليان. صحيح أن رؤانا السياسية وآراءنا ليست «توائم» تحمل ملامح متطابقة لكنها كانت تحمل «سحنة» واحدة، وكانت شجرة الاتفاق السياسي بيننا أكبر من «شجيرة» الاختلاف، وكانت ليالينا «مغنى ورقيص» كما يقول السودانيون… لكن سرعان ما تغيّر اتجاه الريح، وتغيرت ملامح الرؤى والآراء، وكبرت شجيرة الاختلاف السياسي وتطاولت على شجرة الاتفاق، وتوقفت طبول «الرقيص» عن القرع، وبدأت مرحلة جديدة، مرحلة تبادل إطلاق النار بيننا، أو بصورة أدق وأصدق «مرحلة إطلاقي النار على أنصار محمد الصقر السياسيين».
هنا أيقن أبو عبدالله، محمد الصقر، أن مقالاتي لم تعد، ولن تكون بعد اليوم، برائحة المسك الأذفر ولا بنكهة الفراولة التركية منذ اللحظة، وعليه أن «يتجرعها» كما يتجرع المريض الدواء المر، فيغمض عينيه ويهز رأسه لشدة مرارتها قبل أن يتمضمض ليزيل طعمها من فمه. وتساقطت على الصقر قذائف العتب واللوم من أصحابه وأقربائه السياسيين الذين طالتهم سهام نقدي، فكتب مقالتين يبرئ نفسه فيهما، ويعلن ألا علاقة له بما يُكتب في المقالات والأعمدة، لكن أحداً لم يقبل العذر، فبدأت «مرحلة الجمارك»، وصدرت الأوامر بأن تتوقف مقالاتي على الحارة اليمنى لمزيد من التفتيش والتدقيق قبل العبور، وبدأ البحث عن «أدوات التجريح» و»مواد التقريع» وغيرها من «الممنوعات»، مع التغافل المتعمد أحياناً والسماح بمرور بعض الكميات الصغيرة «للاستعمال الشخصي».
وكان الشعار الذي رفعه الصقر هو «لك أن تنتقد أقربائي السياسيين – يقصد كتلة العمل الوطني – ورئيس الحكومة كما تشتهي، لكن دون أن تريق دماءهم أو تشوه وجوههم… استخدم الكتف القانوني»، وكان شعاري «إذا ضربت فافصل»، فكتبت مقالات هجائية عدة ضد كتلة الوطني، آخرها مقالة «تكتل صاهود»، في حين تفرغ أبو عبدالله لقراءة «سيرة أيوب» عليه السلام… والشهادة لله وللتاريخ، لم أكن أتوقع مرور بعض المقالات فخاب توقعي.
واليوم يتحدث ركبان القوافل عن «المعركة المنتظرة» على رئاسة البرلمان، بين أحمد السعدون ومحمد الصقر، دون أن يعلن أيّ من المتنافسين ذلك… ولأنني من عشاق الحروب، ولقناعتي بأن السعدون هو الأجدر، فسأقف معه بكل ما أستطيع، ولولا الحياء الأدبي لوجّهت منجنيقي على حصون محمد الصقر لأدكها قبل أن أبعث بطاقات دعوة إلى قبائل الغربان لتحوم فوقها.
ولو كانت المنافسة على الرئاسة بين محمد الصقر وجاسم الخرافي لارتديت حزاماً ناسفاً واقتحمت «موكب الخرافي» دفاعاً عن الدستور لا عن الصقر، ومع ذا… ما بذله محمد الصقر في دفاعه عن الدستور، كما أرى، لا يعادل حمولة بعير في قافلة أحمد السعدون، لذا فالسعدون هو الأحق، لا شك في ذلك ولا عك.
اليوم: 13 ديسمبر، 2011
الأمل الغنوشي
«الربيع العربي أو ربيع الأصوليات» (سجعان القزي، النهار)، «العلمانيون والانتصار المرحلي للقوى الإسلامية» (سلام الكواكبي، المصدر السابق)، «صعود الإسلام الليبرالي» (السيد ياسين، الحياة)، «إلى الجحيم أيها العلمانيون» (سوسن الأبطح، الشرق الأوسط).
تلك كانت مجرد نماذج بسيطة لعناوين زوايا لمثقفين وكتاب في الصحف العربية، وفي الصحف الأجنبية هناك خطاب مشابه وإن كان أكثر دقة بالتحليل من الرأي العربي بصورة مجملة، والمشترك في تلك الخطابات هو حالة الانبهار بصعود واقتراب التيار الإسلامي إلى الحكم في الربيع العربي أو الربيع «الملتحي» أو «الربيع المنقب»، ولنا أن نختار الكثير من النعوت التي قد ترضي قليلاً من الغرور شبه العلماني، أو تطفئ بعضاً من غليله. هي حالة انبهار وليست دهشة، فنحن ننبهر من حدث كبير، وفي الأغلب يكون متوقعاً، لكننا لا نندهش منه طالما كان في خانة التوقع، الانبهار من كتاب الصحافة العربية جاء مغلفاً أحياناً بحنق وجلد للذات مع نوع من الشماتة على الخطاب العلماني، مثل مقال سوسن الأبطح، وأحياناً يرافق هذا الانبهار نوع من العزاء للنفس، والتمني بنهاية جميلة تنسجم مع حلمنا بالحريات العامة والفردية حين نردف كلمة الإسلام بـ»الليبرالي» (السيد ياسين)، وتبقى هناك دائماً القواسم المشتركة في التحليل التي تفسر صعود النجم الإسلامي بفشل المشروع القومي العربي، وتحالف النخب العلمانية مع النظم السلطوية أو «تعالي» تلك النخب على الشارع العربي وتناسي قضاياه اليومية من أحوال معيشية فقيرة وبائسة، ويرافقها انعدام كامل لأبسط حريات الفرد المسحوقة كرامته من عصر الاستعمار الغربي الخارجي حتى الزمن الأسود المتمثل في الاستعمار الداخلي للسلطات الحاكمة والآفلة حتماً.
طبعاً هناك «الرتوش» والبهارات التي يمكن إضافتها لوعاء طبخ تفسيرات صعود التيار الديني، مثل داء «البترو دولار»، وكيف ساهمت أرصدة الدول الخليجية الضخمة الناتجة من تصاعد أسعار البترول في ضرب قوى اليسار والقومية مع الضخ المالي المتواصل للجماعات الإسلامية، فتلك الجماعات ضحت بالروح في تحرير أفغانستان من «الكفار» الشيوعيين في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن تنقلب على أسيادها، وكانت الأموال تسيل من الخليج والأرواح من دول الفقر العربية والسلاح من الأميركان والغرب، حتى يعجل بسقوط الإمبريالية السوفياتية، ويصفى الجو لمركز الإمبريالية الغربية وحواشيها العربية… ألم يكتب محمد حسنين هيكل عن نهاية الثورة وبداية عصر الثروة…! أما اليوم فأسعار النفط العالية تخدر الداخل الخليجي وتقيه من أنواء العواصف المقتربة، وفي الوقت ذاته تروم إلى احتواء الربيع الملتحي… وتمضي قائمة تحليلات الكتاب والمثقفين العلمانيين المنبهرة إلى ما شاء الله، وكأن الأنظمة العربية السلطوية كانت فعلاً علمانية وليبرالية…! ولم تكن غير كأس جميل يحتوي على بيرة مغشوشة…! (نسب هذا التعبير إلى إحسان عبدالقدوس في تعليقه على طه حسين ولا أعرف مدى صحة هذا النسب).
أياً كانت مصداقية التفسيرات والتبريرات السابقة، فإن القدر المتيقن هو مثلما قال توماس فريدمان في مأثورته، ولم أقرأ له مأثورات سابقة، تقول إن العرب لا يمكنهم القفز من المرحلة الاستبدادية إلى المرحلة الجفرسونية (نسبة إلى توماس جفرسون كأهم واضعي الدستور الأميركي مع تكريس مبادئ الحريات فيه) دون المرور بالمرحلة الخمينية… فليكن وصف المرحلة الحاضرة بالخمينية طالما اقتنعنا بأنه لا يمكن دائماً في الثورات حرق المراحل… إلا أن الأمل يبقى بأن المرحلة «الخمينية» تتقدم صعوداً لتصل إلى العتبة الغنوشية في تونس أو الطيبية في تركيا، ولا يتعطل مصعدها في السراديب المظلمة للسلفيات المغلقة والجهادية… وليس لنا غير هذا الأمل.
ماذا تعلمت من طارق؟
ليس من السهل وجود طفل ذي احتياجات خاصة في الأسرة، ومع هذا للموضوع جانبه الإيجابي، وأعتقد انني أصبحت شخصا أفضل بوجود «طارق» ضمن أسرتي الصغيرة! فقد تعلمت منه وبسببه الكثير، فعندما كان في سنواته الأولى زار الكويت طبيب شهير، وكان موعدنا معه في آخر أيام زيارته. طال انتظارنا، وكان عليّ العودة سريعا لعملي في البنك لإنجاز لم يكن أحد يمتلك صلاحية القيام به. وأيضا الذهاب لتحويل ملكية أسهم بعتها في اليوم السابق وانخفضت أسعارها في ذلك اليوم بحدة، وتأخير التحويل قد يبطل البيعة. كما أن موعدي في وزارة الأشغال لتوقيع عقد بناء مسجد قد تأخر! ولم تكن الموبايلات معروفة وهواتف مستشفى الصباح، عبر البدالة، لم يكن يعتمد عليها يومها، وربما لا تزال كذلك بعد ربع قرن! وكنت أشعر بضيق شديد وحيرة لعجزي عن الاختيار بين انجاز ما هو مطلوب مني، وبين رغبتي في البقاء مع طارق ووالدته، وفجأة شعرت براحة نفسية تغشاني بعد ان اكتشفت «الحقيقة» وأنا أتساءل: أليست الرغبة في تحقيق المزيد من المال هي الدافع وراء رغبتي في ترك ابني ووالدته؟ ألا ندعي جميعا تقريبا اننا لا نهدف من وراء جمع المال غير تأمين حياة أفضل لأسرنا وضمان مستقبلهم؟ فإن كنت صادقا مع نفسي ومع هذا الادعاء فإنني بالتالي في المكان المناسب، مع ابني! وعلى العالم أن ينتظر، ولتذهب الأرباح إلى الجحيم، فأنا هنا من أجل صحته ومستقبله! ومن يومها تعلمت من طارق أن أضعه وأخته وأخاه وأمهم في قمة أولوياتي، ومن الأجدر بمن لا يشاركني الرأي، البقاء من غير زواج أو أبناء!
وتعلمت من طارق الصبر، وصبري ليس بالمثالي، ولكن كان من الممكن أن يكون اسوأ! وتعلمت منه الصدق في المحبة، وعدم القدرة أو الميل لمجاملة من بإمكاننا عدم مجاملتهم، وهم الغالبية بيننا. كما أن طارق لا يترك طعاما في صحنه من دون أن ينهيه، ومنه تعلمت عدم تبذير الطعام، فقد اكتشفنا مصادفة أنه لا يحب الذهاب لمطاعم محددة، بالرغم من حبه لما تقدمه من طعام، لأن الكمية التي توضع في صحنه كبيرة ويتعب بالتالي في انهاء ما قدم له من طعام!
ومن الأشياء الرائعة التي تعلمتها من طارق عدم السماح لرغبة التملك في السيطرة علينا. فكل ما يمتلكه طارق هو ملك لمن يحب. وبخلاف حالات المرض القليلة التي يمر بها، فإن كلامه وتصرفاته تتسم عادة بالبعد عن المجاملة أو زيف القول، وهذا ما نحتاج اليه أكثر في عالم مليء بالمجاملات «الكاذبة»، فنحن نتكلف في المديح، ونبالغ في الذم ونتجنب الصراحة، علما بأنه لم يقل يوما انه يكره فلانا!
***
ملاحظة: فكرة المقال مستوحاة من مقال للزميل الأميركي المصري سامي البحيري بعنوان «ماذا تعلمت من صديقي صاحب الإعاقة؟».
أحمد الصراف