في أواخر ستينات القرن الماضي كنت أقف وحيدا في الصباح الباكر على رصيف محطة «إيرلز كورت»، بانتظار القطار الذي سيقلني الى وسط العاصمة البريطانية. كان صباحا باردا وكنت أحس بالبرد القارس يخترق جلدية حذائي، ويجمّد اصابع قدمي فوق ذلك الرصيف الاسمنتي العاري، ما هي إلا لحظات حتى شاركني رجلان في انتظار القطار، الذي لا يأتي إلا مرة كل 20 دقيقة. كانت واضحة شكواهما من برودة الطقس بالرغم من كمية الملابس التي كانا يرتديانها، وتبين من لهجتهما انهما من الكويت، وأن الأكبر سنا مريض وجاء إلى لندن لتلقي العلاج، يرافقه الآخر، الذي بدا أنه قريب له، وكان هذا الأخير يقف إلى يمين الشخص المريض. بعد دقائق، بدت كالساعات، وصل القطار أخيرا، وفتحت أبوابه بصورة آلية فقفزت الى داخله ابتغي الاحتماء بالدفء فيه، ونظرت خلفي وهنا رأيت الرجل الأكبر سنا يضع يده خلف ظهر الشخص الآخر، طالبا منه صعود القطار قبله وهو يقول: تفضل، يمين يمين، تفضل! وتعني، حسب عاداتنا، أن الشخص الذي على اليمين عادة ما يتقدم الآخرين، إن كان الجميع على درجة متقاربة اجتماعيا، على المداخل والمخارج. ولكن الرجل الأصغر سنا رفض أن يستقل القطار قبله، وتمسك بمكانه، طالبا من الآخر ان يتقدم، وأيضا واضعا يده خلف ظهر الآخر، فأصر هذا على موقفه، واستمرت محاولات الرجلين للحظات وكل يطلب من صاحبه أن يصعد القطار قبله، وهنا أغلقت ابواب القطار بصورة أوتوماتيكية، وانطلق تاركا إياهما على رصيفه البارد، والدهشة تغطي وجهيهما، وهنا رأيت شبح ابتسامة ترتسم على وجهي الذي انعكست صورته على زجاج باب القطار، ومن يومها وأنا أهتم بالتفكير في «عاداتنا وتقاليدنا».
أحمد الصراف