الذاكرة ما الذاكرة؟ تتساقط منها أحداث لا حصر لها، وتحتفظ ببعض الكراكيب… وكنت طفلاً عندما قيّض لي الحظ أن أشتري حذاءً أصفر، فردته اليمنى مشطوفة، شكله غريب مريب، اشتريته بفلوس مكافأتي من والدي لحفظي "سورة عبس وتولى" من القرآن الكريم، وكانت مكانة الحذاء في قلبي تفوق مكانة الألماس البلجيكي، وكنت وأنا أحمله في يدي لا أغبط السلطان بلقيه في قصره، ولم أخش شيئاً إلا تدافع المعجبين إذا انتعلته وخرجت به إلى الشارع، وأسئلتهم التي لن تنتهي: "من أين حصلت عليه؟ وما هو شعورك؟ وهل تسمح لي بتجربته؟ ووو"، كان الله في العون، هذه هي ضريبة بو شطفة.
وخرجتُ بالحذاء الكريم… ومضت دقيقة، تبعتها دقيقتان، وعشر، وكرّت مسبحة الدقائق، ويا للهول، لم يتدافع المعجبون، ولا حتى معجب واحد ولو بالمصادفة، سحقاً لهم، ولم يسألني أحد ما هو شعورك، وخنقتني العبرة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقررت أن أبادر أنا بعرض "الأصفر أبو شطفة" على المارة وعابري السبيل، فانتظرت أول عابر، وكانت عجوزاً تسكن في آخر الشارع، وجهها هو المصدر الرئيسي للتجعيد، فيه سبعون خطاً ويزيد، ورحت أمشي بالقرب منها، علّها ولعلها تسألني عن شعوري أو تستجديني تجربته، لكنها لم تلحظ شيئاً، فاضطررت إلى رفع طرف دشداشتي كي يظهر الحذاء وتظهر الشطفة، لكنها "ولا في البال"، فلم أجد مناصاً من لفت انتباهها بالتصريح بعد أن فشل التلميح: "ما رأيك بشطفة حذائي؟" وأشرت إليه، فأجابتني بأدب: "إذا لم تحمل شطفتك وتبتعد عن طريقي فسأقطعها على دماغك"، فابتعدت عن طريقها، لا خوفاً على دماغي بل على حذائي.
وانتظرتُ مرور غيرها من أهل الخير وذوي القلوب الرحيمة، علّ أحدهم يقدّر قيمة هذه الشطفة المباركة، لكن بادرة أمل واحدة لم تلح في الأفق، فلم يعد أمامي إلا أن أطرق الأبواب لأستعرض حذائي أمام أقراني الذين ناموا استعداداً للمدرسة صباح غد. وبدأت حملة طرق الأبواب، ففتح لي والد أحدهم، وما إن رآني حتى تجهم وصرخ: "نعم؟"، فأعطيته جانبي الأيمن وأنا أتبسم بزهو، ورفعت رجلي وكأنني مضطر إلى حك قدمي، عسى أن يرى الشطفة فينبهر فيفتح معي حديثاً مطولاً مليئاً بالأسئلة التي تبدأ من: "ما هو شعورك؟" ولا تنتهي إلا بطلب تجربته، وكنت سأسمح له بتجربته، لكن المثل يقول "خيراً تعمل شراً تلقى"، فبدلاً من الانبهار بحذائي، شدني من ياقة ثوبي فخنقني فبكيت، وراح يشتم ويسأل: "ابن مَن أنت؟ اعترف… ماذا تريد من ابني؟" ودون أن ينتظر إجابتي ركلني بكعب رجله على ظهري ففقدت أنفاسي وكدت أموت.
ولا يأس مع "الأصفر أبو شطفة"، لكنني خفت من فكرة طرق الأبواب، فقررت أن أوقظ صديقي من دون أن يستيقظ والده، فرميت شباكه بحجر كما كان يفعل عبدالحليم حافظ مع شادية، لكن صديقي ليس شادية، لذا انكسر شباكه لعنه الله، فولولتُ ولطمت رأسي، وحملت أبوشطفة في يدي وأطلقت لساقيّ العنان، ولم أتوقف إلا على مشارف الفحيحيل لشدة الهلع.
وجلست مستنداً إلى سور إحدى المدارس أستجمع ما بقي من أنفاسي وأعيد ترتيبها وأوقف نزيف الدم من قدميّ الحافيتين… وتوالت المحاولات، لكنّ أحداً لا يريد أن يعطي أبوشطفة مكانته التي تليق به، إلى أن علمتُ لاحقاً أن الشطفة ليست إلا عيباً مصنعياً، بدليل أن الفردة الأخرى تخلو من الشطفة.
ويخرج الشعب الكويتي بديمقراطيته الصفراء أم شطفة، يستعرض بها أمام المارة من الأوروبيين والدول المحترمة، عل أحداً يسأله عن شعوره، ولا أمل، فيطرق الأبواب ويكسر الشبابيك ويهرب إلى مشارف الفحيحيل، ويكتشف لاحقاً أن ديمقراطيته بشكلها هذا ليست إلا عيباً مصنعياً، بدليل أن حريته مرتبطة بمزاج السلطة، وحكومته التي تقرر مصيره لا يختارها.