تذكرتُ الحكاية القديمة الحقيقية لتلك الصبيّة اليافعة العفيفة والشبان الذين استمرأوا معاكستها والتحرش بها ورميها بالصخر وإهانتها كل يوم، عندما هددتهم بأخيها "صاهود" الذي يعمل في العراق وسيعود في غضون أيام لينتقم لها منهم…
انتظرَته، وطال انتظارها، وتعاقبت الأسابيع، أسبوعاً يركل أسبوعاً ويزيحه ليحل محله، والصبيّة تقضي أوقاتها بين دموع القهر وابتسامات الأمل بانتقام أخيها من الشبان الملاعين… وطال الوقت عليها، واليافعات لا يحتملن عذابات الوقت، فنعست عيونها لكن قلبها الغض لم ينعس، ولا كرامتها المجروحة نعست.
وأخيراً، تبسمت السماء، ووصل أخوها، فقفزت في حضنه تقبله وتغرقه بدموع فرحها، وتشكو إليه ما أصابها في غيابه، وتلومه على تأخيره، وهو الذي بلغته شكاواها مع المسافرين، ويعلم أنها شقيقته الوحيدة اليتيمة الأب، ومع ذا فقد غفرت له كل ذلك، لكنها أقسمت عليه بحق الأخوة ألا يتركها مرة أخرى ويغادر…
ولم تكمل بكاءها وشكواها حتى سحبته من ذراعه إلى "البراحة" التي يجتمع فيها أولئك الفتيان الملاعين، ليريها فيهم عظيم قوته وأصيل نخوته، ويسترد كرامتها المهدرة. وما إن أقبلا على جمع الشبان حتى فرّ بعضهم هلعاً وتماسك القلة منهم وصمدوا، فصرخ في وجوههم: "ما تستحون؟ لا تحرشون فيها مرة ثانية"، واكتفى بذلك، وسحب شقيقته من ذراعها ليعود بها إلى البيت…
وفي البيت، راح أخوها ينثر الهدايا أمامها وهي تنظر إليه مذهولة مفجوعة، فركلت هداياه وهربت منه إلى أمها باكية، فسألتها أمها: "ما الذي يبكيك؟" فأجابتها: "يا ليت صاهود في عراقه"، أي ليته بقي في العراق ولم يأتِ.
وعاد صاهود إلى "عراقه"، وعاد الفتيان إلى سابق عهدهم مع أخته.
الحكاية تتكرر اليوم، والصبيّة اليافعة هي الكويت، والشبان الذين أهدروا كرامتها هم الراشي والنواب المرتشون، وصاهود هو "تكتل العمل الوطني".
وكانت الكويت اليافعة قد تعرضت لكارثة هي الكبرى في تاريخها، بلا مبالغة، هي أكبر من كارثة الغزو – وفي هذا يطول الشرح – عندما تم شراء بعض نواب برلمانها كما يُشترى العبيد، وسُلِبَت إرادة الشعب، فتسابق النواب الأحرار لإعلان غضبهم، وأسرجوا خيلهم، وتفقدوا سيوفهم وصفوفهم قبل المعركة، فتخلّف نواب تكتل العمل الوطني، فتساءل الناس، فراح أنصار "الوطني" يقلبون أثاث الصالة بحثاً عن عذر هنا أو حجة هناك، فقالوا تارة: "هم الآن خارج الكويت، وسيعودون قريباً محمّلين باللؤلؤ والمرجان"، وقالوا تارة أخرى: "جهّزوا سيارات الإسعاف، واحفروا مزيداً من القبور، فنواب التكتل الوطني قادمون لينتقموا للكويت"، وانتظر الناس السيل، وتأخر السيل، والبدو يقولون "ما يبطي بالسيل إلا كبره"، وشحبت الأرض، لكن رحمة ربك تداركت عشاق البلد فشاع الخبر عن "ندوة لنواب التكتل الوطني"…
وقامت الندوة، وأرخينا أسماعنا لصوت طبول الحرب، فصرخ نواب الوطني في وجه الراشي والمرتشين كما فعل صاهود: "ما تستحون؟"، واكتفى "صاهود الوطني" بتلك الجملة، ثم طلب شهادة أربعة من الثقات شاهدوا "المرود يدخل في المكحلة"، وراح "الوطني" يتحدث عن أمجاده التي خلدها التاريخ في الهند والسند وفي المحيط الأطلسي والنرجسي وفي بلاد تركب الأفيال والبغال، قبل أن يقلب "الوطني" ندوته إلى "لطمية" بسبب الحرب التي يتعرض لها من الكائنات الفضائية التي لا يراها إلا هو، ووو، ومع نهاية الندوة، التفت "الوطني" إلى جهة ما وغمز بعينه اليسرى وهو يخفي ابتسامته الساخرة.
وبدلاً من أن يفزع صاهود لأخته، راح يهاجم من انتفض من أجلها.
أوااااه… يا ليت صاهود في عراقه.