هناك، في بلاد الطرطرة.. يركب الشعب الأفيال، وتركبه الحمير والبغال، ويقبض نوابها رشاوى من أموال الدولة، وتنام الدولة في الشارع على لحم بطنها، جائعة صائعة ضائعة.
والرشاوى ليست «خبط لزق»، بل محسوبة بالمليخراط.. إذا قلت «طاعة ولي الأمر» فستحصل على مئتين وخمسين ألف طرطارٍ (عملتهم الطرطار)، طرطار ينطح طرطاراً.. وإذا قدتَ مسيرة تأييد إلى بيت المسؤول فستحصل على ثلاثمئة ألف طرطار ورحلات مجانية على الهودج الملكي.. وإذا قلت «المعارضة لها أجندة خارجية» فستحصل على مئتي ألف طرطار.. أما إذا أردت أن تلعب على الثقيل فقل «رجل المرحلة» وستحصل على نصف مليون طرطار.. وهكذا، الحساب يجمع.
وفي لعبة «السنوكر» يركز المحترفون على الكرة السوداء لأنها بسبع نقاط، وفي بلاد الأفيال والبغال يركز بعض نوابهم على جملة «رجل المرحلة» لأنها بنصف مليون طرطار.
هناك.. يتحدث أحد نوابهم: «دخلت بجاكيت أبيض وسأخرج بجاكيت أبيض»، يقول ذلك وهو يرتدي جاكيتاً أسود بلون الفحم المصفى.
هناك.. تتجمع غالبية نوابهم ليلتقطوا الصور مع ولي نعمتهم، ويفعلوا كما كنا نفعل أيام الصبا المبكر وبدايات المراهقة في الصباحية، يرفعون شارة النصر مثلنا، ولم ننتصر إلا على الوهم ولم نهزم إلا العدم، أما هم فانتصروا على الشعب وهزموا الأمل.
هناك.. يعم الفساد البلاد ومصالح العباد، والفساد الداخلي أخطر من الغزو الخارجي، لذا تحتاج بلادهم إلى إعادة إعمار بعد تكديس الراشي والمرتشين والمفسدين وراء القضبان.
هناك، في بلاد الطرطرة.. سيطر الكومبارس على المشهد وانزوى العباقرة.
هناك.. الفساد ليس في الرشوة فقط، بل في التعيينات والصفقات وخذ وهات، فالذي لا يتقن صنع القهوة أسندت إليه مهمة إدارة المطبخ العام، والذي لا يعرف الفرق بين الإبرة والدبوس تولى مهمة الخياطة، واللص تولى الحراسة، والكذابون تولوا الخطابة وإصدار الفتاوى، فأفتى مفتيهم ذات جشع: «نظام الدوائر حرام»، لأنه يخالف رغبة المسؤول، لكنه صمتَ صمت الغريق عن انتشار الرشاوى في البرلمان.
هناك.. رقاب الناس كلها ملتفتة إلى القضاء، والشعب يرفع أيديه بالدعاء كما تدعو الأم لوحيدها: «اللهم إنك تعلم أنه لم يبق لي إلا هو فوفقه واحمه وانصره وسدد خطاه».
هناك، في بلاد الطرطرة.. ما لم يتداركها أبناؤها، ستتهدم الجدران والحوائط والقصور، وتملأ الغربان السماء، وتتساقط الأزهار، ويرتفع الدخان، ويسود اللون الأشهب، ويهاجر غالبية المترفين إلى بلاد السكسونيا…
وكما أن الشعب الصومالي يموت اليوم جوعاً، وهو في أكثر الأراضي خصوبة، سيجوع شعب بلاد الطرطرة، عما قريب، بعد أن تفرغ خزائنه ويتناهب أمواله «الحكماء ورجال المرحلة واللعاقون».