محمد الوشيحي

أعمامنا

الكاتب الفرنسي الخالد «بلزاك»، وهو بلزاك على سن ورمح، كان يُتهم في حياته بتشويه الثقافة الفرنسية والدعوة إلى الإلحاد ومعاداة الكنيسة ووو، إذ كانت رواياته تتحدث عن فساد بعض الرهبان والراهبات، عن مجونهم ومجونهن، عن تكسبهم وتكسبهن، عما يدور في غرف النوم… وكذلك حال مواطنه «سارتر»، وحال الأميركي «همنغواي» الذي سل سيفه وسنّ سكينه ضد العادات الغبية في المجتمع الأميركي، فسنّ المجتمع مقصلته لهمنغواي، ونصب له أعواد المشانق بعد كل عمل أدبي يكتبه هذا العظيم الخالد… هؤلاء وغيرهم كانوا يتعرضون لقذائف المجتمع الخارقة الحارقة، لكنهم تجاهلوها ولم يتوقفوا عندها، فأثروا الأدب العالمي.

وفي مصر، أرسل عبدالناصر أفّاقه الأكبر ودجّاله الأعظم محمد حسنين هيكل إلى كل من إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم يبلغهم «غَضَبَ الرئيسِ بسبب المجون في رواياتكم»، فخضع الحكيم وأذعن محفوظ ورفض عبدالقدوس الانصياع للأوامر، وكتب رسالة وجهها إلى الرئيس من خمس عشرة صفحة يعلن فيها أن رواياته هي مرآة للمجتمع تعكس ما يدور فيه بكل صدق، فذاق عبدالقدوس الأمرّين، ولعن الساعة التي رفض فيها إملاءات المتدين الأكبر عبد الناصر (كان من ضمن أوامر عبدالناصر لعبدالقدوس إيقاف مقالات مصطفى محمود في مجلة روز اليوسف «لأنها تدعو إلى الإلحاد»، وكان عبدالقدوس قد سمح لمصطفى محمود بالكتابة «الإلحادية» بعد أن دعا كبار رجال الدين للرد عليه ما أثرى النقاش وفتح الآفاق).

واليوم، يحتفل الفرنسيون بيوم ميلاد «بلزاك» ويوم مماته، وكذلك يفعل الأميركان بصاحبهم «همنغواي»، والمصريون بعبدالقدوس، وبَقِيَت أسماؤهم خالدة، وتلاشت أسماء منتقديهم دعاة المحافظة المزعومة وتطايرت كالدخان أسماء دعاة التدين المزعوم غير الحقيقي… فلا تهن ولا تحزن يا صديقي، فلن يصيبك ربع ما أصاب أعمامنا كبار الأدباء والكتّاب.

قلت هذا الكلام لزميل هاجم تجار الدين والعادات الكاذبة، فثارت عليه جموع من النوع الذي يصنفك بناء على المقالة التي أمامه، فأنت اليوم قبليّ ولا عامر بن الطفيل، وأنت غداً منسلخ عن القبيلة وأعرافها وأميرها ولا عروة بن الورد، وبعد غد أنت مع رئيس الحكومة، وبعده أنت مع الشيخ أحمد الفهد، واليوم الذي يليه أنت ضد الدين، والذي يليه أنت متدين طائفي، وهكذا… هؤلاء القراء لا يتذكرون كل ما كتبته، ولا يقيمون وزناً لكل الحبر الذي سكبه قلمك في مقالاتك السابقة، هم «عيال اليوم» فذاكرتهم لا تتسع إلا للمقالة المنظورة أمامهم.

والمصيبة الكبرى عندما يرتدي أحدهم جبة لقمان الحكيم وهو يحدثك بعد أن كتبت مقالة انتقدت فيها تجار الدين، أكرر، تجار الدين لا الدين: «لا تقترب من حمى الدين وأنت ابن تلك الحمولة التي والتي… إني لك من الناصحين»، فتجيبه بحروف الحزن: «أخشى أن ينفر الناس من الدين ويكرهوا الحمايل بسببك وأمثالك»، وتتمتم بصوت لا يسمعه إلا قلبك: «ملعون أبو الحمايل، أنصاف الليال وأطراف القوايل».

يا صديقي الكاتب… ليس أسهل من تكديس الرمل تحت السجادة كي يرضى عنك مجتمع الحمايل، لكن الصعوبة يعرفها من يرفع السجادة ويضربها بعصاه ليتطاير غبارها… فاغمض عينيك عن غبار سجادهم.

***

كتلة العمل الوطني تلعب بالطريقة البرازيلية، هات وخذ، وتتفاوض مع «الحَكَم»، وتتفاهم مع حاملي الراية، وتنسّق مع لجنة البطولة، فتفوز بدرع الدوري وكأس اللعب النظيف، قبل أن ترفع شعار «الرياضة… أخلاق».

احمد الصراف

نصيحة سفير

«..نعم، إن العالم كبير، إن العالم ضخم، وهو كذلك في النهار أيضاً ، حين يشتعل وادي فيشيغراد بالحرارة، وحين يكاد يسمع المرء صوت نضج سنابل القمح التي تغطي الوادي، وحين تتراءى المدينة بيضاء ناصعة منتشرة حول النهر الأخضر، مسدودة بالروابي السوداء، وبذلك الخط المستقيم، الجس. ولكن في الليل، في الليل وحده، حين تحيا السماوات مرة أخرى وتتوهج، إنما تنكشف اللانهاية والقوة الجبارة في هذا العالم، الذي يضيع فيه الإنسان الحي، ولا يستطيع أن يدرك نفسه ولا المكان الذي يمضي إليه، ولا ما يريد ولا ما الذي يجب عليه أن يفعله، في الليل وحده إنما يحيا المرء حقاً، حياة هادئة طويلة: في الليل، ما من كلمات تربط الإنسان ربطاً ثقيلاً مدى الحياة، ما من وعود قاتلة، ما من ظروف لا مخرج منها، ما من مهلة قصيرة تجري وتنقضي بغير رحمة، من دون أن تفضي إلى غير الموت أو العار مخرجاً، أجل ليست حياة الليل كحياة النهار، ففي الليل كل شيء حر لا نهائي غفل أخرس». فقرة جميلة، بنظري، من رواية «جسر على نهر الدرينا» لليوغوسلافي إيفو أندريتش، الحائز على «نوبل للأدب»1961، وهي الرائعة التي سبق أن قرأتها عام 1958 ، ولكن السفير، المتعدد المهارات والمواهب، محمد خلف نصحني بإعادة قراءتها بطبعتها الجديدة الصادرة عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وكانت نصيحة في محلها، فقد استمتعت بالرواية بشكل غير عادي، وعرفتني أكثر بخلفية ما يدور في تلك المنطقة من صراع قاس وطويل، الذي سوف يستمر طالما بقي التعصب الديني الأحمق هو المسيطر على أفكار الكثيرين منا!

أحمد الصراف
[email protected]