محمد الوشيحي

سجل عندك 1

تريد الكذب البارد الذي يسرسح على جوفك ويخدّر دماغك ويطبطب على أكتافك أم لديك القدرة على تحمل الصدق الذي يلسعك ويصفعك ويسفعك بالناصية… تعال إلى ميدان الصدق، وتعال لنتحدث عن الفرق بين عادات الشعوب المتعلمة وطباعها ونقارنها بعادات الشعوب غير المتعلمة وطباعها. وعندما أقول «متعلم» أو «متعلمة» فأنا أتحدث عن الفرد في الشعوب المتعلمة، وعندما أقول «غير المتعلم» فأنا أتحدث عن الفرد في الشعوب غير المتعلمة، حتى لو كان يحمل شهادة الدكتوراه. وطبعاً لا حاجة لي إلى التذكير بأنني أتحدث عن الغالبية لا الكل.

وسيلفتك في الشعوب غير المتعلمة المبالغة في الحزن والكرم، ويموت ميّتهم الذي لا يعادل حبة خردل، فتندب الندابات، وينثرن التراب على وجوههن، ويرتفع صراخهن، وتقوم قيامتهن… ويموت المتعلم فيكتفي أهله وأصدقاؤه بالحزن والإطراق والصمت ووضع الورود على القبر، فللموت هيبة عندهم وجلال.

وإذا زرت صديقاً من الشعوب غير المتعلمة، فيا ويلك ويا سواد ليلك إن كنت مستعجلاً أو على سفر، سيقسم عليك بأغلظ الأيمان وأمتن العبارات أن تأكل عنده ذبيحة، كبشاً أو تيساً أو ديكاً رومياً أو غيرها من البهائم التي تعتمدها بيئته رمزاً للكرم وحسن الضيافة، وسيدعو الجيران والأقارب، وستشعر لوهلة بينهم أنك أبو زيد الهلالي، وفي أضعف الأحوال أنت دياب بن غانم، أما إذا زرت متعلماً تربى في بيئة متعلمة، فسيخيّرك: «ماذا تشرب؟» أو «سأصحبك إلى مطعم فاخر إن كان لديك الوقت»، هكذا ببساطة، فإذا كنت غشيماً مثلي، وأجبته: «كثّر الله خيرك… لست جائعاً»، فسيصدقك فتجوع فتموت.

وفي الشعوب غير المتعلمة، سيفاخر أحدهم: «أنا أكرمُ ضيفي حتى لو لم أكن أملك مال الضيافة، سأستدين لإكرامه، وسأقتّر على أولادي من أجله»، وهو يرى ذلك غاية الفخر وسنام المجد، في حين تعتبر الشعوب المتعلمة هذا المسلك تهوراً وعدم حصافة.

ويحدثني صديق: كنا في أميركا، والتقينا صدفة مع مجموعة من المعارف، واتفقنا على تناول الغداء معاً، وجاءتنا الفاتورة، فتناهبناها كعادتنا، كلّ يقول أقسم أن أدفعها أنا، وعلا صوتنا، وانطلقت أيمان الطلاق، ونهض بعضنا لينتزع الفاتورة من يد الممسك بها، فجاء إلينا أميركي طاعن في السن، تبين لنا لاحقاً أنه صاحب المطعم، وقد تحول وجهه إلى اللون الأحمر الفاقع، وهمس بأدب وهو يحاول إخفاء غضبه: «ما المشكلة أيها السادة؟»، فأجبناه ضاحكين: «لا شيء»، فأصرّ: «أنا رأيتكم وسمعتكم تصرخون، هل لديكم مشكلة مع أسعار المطعم؟»! يقول صاحبي: «تمنيت لحظتذاك أن تنشق الأرض لتبتلعني، فالأميركي الأحمر لا يعرف طريقتنا في المبالغة»، ويضيف صديقي: «شرحنا له الموضوع قبل أن نغادر المطعم ونتركه وهو يضع يديه على وسطه ويتبعنا بنظرات من يفكر في إغلاق المطعم أو بيعه، ولا أظنه فهم شيئاً مما قلناه… حتى هذه اللحظة».

وتستمر المبالغة حتى لو على المستوى السياسي، فلحكّام الشعوب غير المتعلمة صلاحيات وسلطات مبالغ فيها، وبإمكان الحاكم تقسيم أراضي الدولة، هذه أقضي فيها الصيف، وتلك للشتاء، وهذه الأرض لأخي، وتلك لابني، ووو، وهذا من حقه، كما تعتقد تلك الشعوب، وكلما قسا على الشعب اعتبروه مهيباً، في حين لو تجرأ حاكم شعب متعلم على التفكير، مجرد التفكير، بمثل هذا، لعلقوه من أذنه اليسرى على مدخل المدينة، وربطوه بالحبال، وضربوه بالنعال… وللزوج غير المتعلم صلاحيات وسلطات على زوجته مبالغ فيها، وهو يفخر بذلك، وهي تفخر أيضاً، وللأب على أبنائه صلاحيات مبالغ فيها، ويفخر ويفخرون، ولرجل الدين سلطات مبالغ فيها، وثروات مبالغ فيها، ومكانة اجتماعية مبالغ فيها، فهو يقبض أموال الزكاة والخمس والنذور ووو، ويحدد ملامح حياة البشر، ويتدخل في تفاصيل الناس، فيقمع ويقطع ويقلع كما يشتهي، أما عند المتعلمين، فهو رجل دين، بس، هكذا…

أما الصدق، فيا ويلاه على الصدق، خصوصاً عند النساء، بل تحديداً عند النساء… تسأل الصبية غير المتعلمة: «ملامحك تغيرت، هل أجريتِ عمليات تجميل؟»، فتقسم لك بشعرها الذي للتو قصّته، أنها لم تجرِ ولا عملية، وتسأل المتعلمة فتنساب وتترقرق بوضوح: «آه، نعم، أجريت أربع عمليات تجميل، واحدة هنا وأخرى هنا…».

وكي لا تتحول المقالة إلى معلقة سأتوقف هنا على أن أستكمل لاحقاً، وأتمنى أن يحتفظ كل غاضب بغضبه إلى أن أُنهي هذه السلسلة.

حسن العيسى

بالحوار لا بالوعيد

قبل أسابيع بسيطة تجمعنا، وكان عددنا لا يتجاوز ثلاثين فرداً، في شارع محمد مساعد الصالح (شارع الصحافة سابقاً)، كان الغرض من الاجتماع «لم يكن عاما بأي معنى» إظهار رفضنا قرار وزير الأشغال الدكتور فاضل صفر إلغاء قرار المجلس البلدي بتسمية الشارع باسم المرحوم محمد مساعد، الذي أعيد تسميته في ما بعد باسم المرحوم بمبادرة من حضرة سمو أمير البلاد حفظه الله. في ذلك الاجتماع البسيط لاحظنا استنفاراً غريباً من وزارة الداخلية وسيارات البلدية، كانت هناك حالة «فوبيا» واضحة من وزارة الداخلية من أي تجمهر ولو كان عدد المتجمهرين، الذين كانوا كتاباً وأصحاب فكر، بسيطاً، فقط كانت هناك «أوامر عليا» من وزارة الداخلية بمنع كل تجمع عام أيَّاً كان، وكان الضباط الحاضرون أصدقاءنا ومن معارفنا القديمة مثل طارق حمادة ومصطفى الزعابي، كانوا يشعرون ببعض الحرج، فلم تكن المسألة تستاهل مثل ذلك الاستنفار الأمني واستعراض قوة السلطة ولا أقول نيتها البطش. انتهى الاجتماع بثرثرة بيننا وبين الضباط رافقتها لحظات حنين استرجعنا فيها ذكريات قديمة انتهت من عقود جميلة.

اليوم تعود «فوبيا» (مرض الخواف) إلى وزارة الداخلية في دعوة تجمع ساحة الصفاة، وأخذت وزارة الداخلية تتلو البيانات الواحد تلو الآخر، تهدد من الاجتماع وتذكرنا بنصوص القانون وعقوباته، كان خطاب وزارة الداخلية يحمل الوعيد والتهديد، ويدخل في روع الناس بأن مثل تلك الاجتماعات هو بمثابة انقلاب على نظام البلد وأمنه، ورافقه حالة استنفار أمني من أجهزة العصا الغليظة التي تلوح بها الوزارة، ولم يكن مثل هذا متوقعاً من الوزير الشيخ أحمد الحمود الذي يراهن الكثيرون بأنه يحمل آمالاً كبيرة في إصلاح الأجهزة الأمنية بالوزارة، وهذا أملنا فيه. أيضاً، فليتسع صدره قليلاً، فالمجتمعون الشباب لا يريدون سوى التعبير عن أنفسهم، لا يريدون غير ممارسة أبسط الحقوق الدستورية في «الاجتماعات العامة»، هم ملوا الاثنين معاً، تركيبة مثل هذا المجلس «البصام» ورب عمله الحكومي.

فما الضير في ممارسة سعة الصدر الآن، فليس الشباب الداعون إلى التجمع من أصحاب السوابق في الإخلال بالأمن، وليسوا حفنة أشرار ستقلب أمن الدولة.

حجة وجود قوانين تمنع مثل هذا الاجتماع العام رغم صدور حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية عدد من مواد وفقرات القانون، لا يعني إضافة قداسة على المواد الباقية التي تحظر «المواكب والتظاهرات والتجمعات المقامة في الميادين؛ فأشد أنواع الظلم والاستبداد هو الذي يكون مدوناً بنصوص القوانين، فهي قوانين لها صفة الشرعية، إلا أنها في الوقت ذاته تفقد صفة المشروعية حين تتعارض مع روح الدستور ومبادئ العدالة الإنسانية.

لا حاجة إلى الخوف من أن تكون ساحة الصفاة هي نسخة كويتية لساحة اللؤلؤة بالبحرين، وهي ليست ميدان التحرير بمصر، ولن تكون أياً منهما، فالظروف مختلفة تماماً، والخشية هنا غير مبررة تحت أي ظرف كان.

من ناحية أخرى، ماذا يمنع الشيخ أحمد الحمود أن يفتح حواراً عاقلاً بينه وبين نائب مثل مسلم البراك –بغرض الخروج بصيغة تفاهم حول مكان الاجتماع– ولو كان البراك يمثل نفسه كمواطن وليس كنائب للأمة.

لا أجد فرقاً هنا بين ساحة الصفاة «المحرمة» أو ميدان التحرير أمام مجلس الأمة، مادام الغرض السامي هو ممارسة حق الشباب في التعبير عن رأيهم في سياسة الدولة الغائبة عن الأولويات والغارقة في «تكتيكات» و«تضبيط» نوابها… بالحوار الهادئ وبالخطاب العاقل يمكن بسهولة تجاوز لغة الوعيد إلى لغة الأمل والعمل للإصلاح.

احمد الصراف

تأجيل السعادة

من المحزن، كما تقول الكومارية أرونا لادفا، أن الكثيرين منا يميلون للشعور بالحزن وإنكار السعادة بحجة أننا لا يمكن أن نكون سعداء من دون تحقق أمر ما، أو أن يوما ما سنصبح سعداء، كما نرغب، عندما نتقاعد مثلا! ولكن السعادة لا تقع في بقعة أو مكان أو وضع معين، فقد يراها البعض في كل شيء وكل مكان، بينما لا يعرف آخرون ما تعنيه، فنحن في غالبيتنا نعد أنفسنا بالسعادة متى ما انتهينا من مرحلة الدراسة والسهر وضغوط الامتحانات، ولكن ما أن تنتهي الفترة ونشعر بالسعادة حتى تجرفنا قضايا الحياة الأخرى وننسى، ونعد أنفسنا باننا سنكون سعداء حتما إن حصلنا على وظيفة توفر لنا دخلا يغنينا عن مذلة طلب المصروف من أهالينا ولكن بعد فترة ينتابنا الحزن لسبب ما، وهنا ايضا نعد انفسنا بأنه سيختفي مع الترقية الوظيفية المرتقبة أو الزيادة في الراتب أو الالتقاء بفتى أو فتاة الأحلام، وتتحقق كل هذه الأمور وتأتي السعادة في كل مرة للحظات وسرعان ما تختفي بمثل ما أتت، ونعتقد بأنها ستعود مع أول طفل يملأ حياتنا بهجة وحبورا، وطفل آخر يشارك اخاه أو اخته الحياة ويكون عضدا له او لها، ثم ننتظر الترقية أو الصفقة التجارية الموعودة، وأن السعادة ستليها دون شك، ولا تأتي بسبب صخب الأطفال وصياحكم، وهنا نقنع أنفسنا بأن الراحة والسعادة ستأتيان مع ذهاب الأطفال للمدرسة، أو عندما يكبرون ويقل ضجيجهم وتقل مشاكلهم، أو عندما ينهون دراستهم ويتزوجون ويستقلون بحياتهم، ولا يحدث شيء من هذا، ثم نعد انفسنا بالسعادة في الإجازة المقبلة التي سننسى فيها متاعب الحياة، ولكن الحقيقة ان ليس هناك وقت أفضل للشعور بالسعادة من الآن، فالسعادة ليست محطة أو نقطة نود الوصول اليها، بل هي رحلة حياة مستمرة. وقد بينت دراسة بريطانية شارك فيها 4700 شخص عام 2008 أن السعادة معدية، بعكس الشعور بالحزن لأثره المحدود نسبيا على الآخرين، وهذا يعني أننا سعداء بطبيعتنا وأن السعادة أقرب للنفس الإنسانية من الحزن. كما بينت دراسات أخرى أن الجماعات الأكثر ارتباطا ببعضها اكثر سعادة من غيرها بسبب شعور أفرادها بالانتماء ووجود شبكة من العلاقات الاجتماعية بينهم وهدف أو أهداف تجمعهم، بعكس الذين يعيشون منفردين. كما ثبت ان الأكثر سعادة هم الأكثر انتاجا، وبالتالي فالسعادة هي حالة ذهنية، تستطيع فيها أن تقنع نفسك بما تشاء، فليس هناك ما يستحق الحزن عليه، ولا شيء يبدو بمثل ذلك السوء الذي تبدو عليه الامور لأول وهلة، فهل كانت سعادتنا تكمن في ساعة يد ويجب عند فقدها أن نشعر بالتعاسة مثلا؟ أم ان السعادة تكمن في سيارة تلمع بحيث ان خدشها قد يذهب بسعادتنا؟ إن الحقيقة المطلقة أننا نشعر بسعادة أكثر عندما نكون بحضور أناس سعداء وبالتالي عليك بأن تترك صحبة دائمي الشكوى، فالسعادة، كما قلنا ليست محطة ترغب في الوصول اليها، بل هي رحلة حياة مستمرة، وهي لن تأتي في الغد أو بعد الغد، بل هي الآن، وفي هذه اللحظة، فلا تضيع وقتك في الحزن والتفكير في المصائب.

أحمد الصراف
[email protected]