«أيها الناس، قد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا، وسلطانه الذي أعطانا، وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله»، بالعبارة السابقة لأبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين استهل خلدون النقيب الفصل الرابع من كتابه بعنوان «في البدء كان الصراع»، وفي الفصل المعنون بـ«محنة الدستور في الكويت والأصولية وأزمة الحرية» كتب خلدون «… المطالبة بالعودة إلى الشريعة، وإلى السلف الصالح، ورفع شعار الحكم لله، هو تعبير عن الحاجة إلى الانضباط والسيطرة على مجريات الأمور، التي انفلتت من أعنتها، وخرجت عن حدود المتعارف عليه، أو المعهودة المستقرة. ولذلك، فهذه المطالبة لا تعبر عن حقيقة أو وعي موضوعي بالتاريخ، وإنما هي مجرد اجتهاد من الاجتهادات في محاولة إعادة الأمور إلى نصابها في خضم التغيرات والتحولات الكبري…»، ويمضي بنا خلدون في فقرة أخرى مقرراً «… في بقية الحضارات التي هيمنت عليها الديانات التوحيدية، اتخذت من الدين والتحزبات المذهبية ستاراً لإخفاء المصالح المتناقضة الحقيقية للجماعات والقبائل والأحزاب، فاختلطت العصبيات والاثنية والقبلية بالانتماءات الطبقية وبالمذاهب والفرق والطوائف. فاصطبغ الصراع السياسي والاقتصادي بهذه الصبغة المذهبية».
ألا ترون في ما كتبه خلدون عام ٩٧ يشخص بدقة واقع حالنا في معظم الأقطار العربية اليوم…! ألم تكن عباراته السابقة قبل أكثر من عقد من الزمن تستشرف المستقبل وحالة الغليان الشعبي التي تحياها أمتنا الآن…!
تأملوا ما يقوله خلدون في هذه الفقرة «… العنصر الاستثنائي الوحيد في حالة الكويت، هو وجود دستور ١٩٦٢ الذي يمثل حصيلة كفاح استمر نصف قرن أو يزيد. ويحاول بعض النواب الكويتيين التوجه إلى تدين المواطنين العفوي، وإقناعهم بأن تعديل المادة الثانية من الدستور (حصر مصادر التشريع في الشريعة) يحظى بإجماع شعبي، وأنهم يستجيبون في مطالبتهم بهذا التعديل لهذا الإجماع، وليس لمآرب خفية وأطماع حزبية خاصة بهم. وفي هذا ملامح ألاعيب الحركات الأصولية غير الديمقراطية، بل الشبيهة بالفاشية. إذ هل يعقل أن يجيب سياسي محترف ونائب في مجلس الأمة بالنفي عن السؤال التالي: هل توافق أم ترفض اعتبار الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في الكويت؟ بينما السؤال الحقيقي هو: هل توافق على أن نتولى نحن، الأصوليين، الوصاية على الشعب، وجعله رهينة اتهام من يعارضنا بالكفر والإلحاد…؟».
الآن أحد هؤلاء النواب وإن لم يطالب بتعديل المادة الثانية لكنه ينادي بعقوبة الإعدام لمن يتطاول على الرسول أو آل بيته…! فهل هناك من تطاول على الرسول أو آل بيته! أم أن مثل هذا النائب لا يريد غير قمع وإرهاب الغير ممن يحسبهم بالكفرة المارقين وغير المحسوبين على أهل السنة والجماعة…؟
وتعبر فوق غمام الذكريات صور المفكر خلدون، أشاهده مرة وهو يقدم مقالاً عميقاً لينشر في «القبس». يريني مقالاً، يكتب بالحبر الجاف، لم يكن خطه جميلاً ولم يكن «يبيض» المقال عادة، ثم هناك الاستدراكات العابرة يضعها بين السطور، ويؤشر عليها بسهم يصعد للأعلى، مثلما يصعد فكره الثاقب للسماء، ويشرح لنا المرة تلو الأخرى ماذا يقصد وماذا يرمي… وتطل من شرفة الذكرى مرة ثانية صورة خلدون وهو جالس في صالون صبيح السلطان في المساء قبل العشاء يصف لنا طريقة طبخ «الباجة» وهو طبقه المفضل… أرى نقاطاً متزاحمة من العرق تتجمع على جبهته العريضة وهو يتكلم مرة عن شاعر أو كاتب… ثم ينتقل إلى الحديث بالسياسة… لا يغضب حين نعيره متهمين إياه بأنه من «الجوراسكيين» في قضية الصراع العربي الإسرائيلي وأنه يساري سلفي… كان يضحك ويصمت ساخراً… لم يتهمنا بأننا أتباع اليمين الجديد والمحافظين الجدد المهللين لسياسات أميركا بالحق أو الباطل… ولو قالها لصدق.
وقفت قرب قبره بعد العزاء… نظرت إلى كومة الرمال المحدبة والمبللة برشات من الماء، بجوفها يرقد جسد د. خلدون النقيب عالم الاجتماع السياسي… فوقها يسطع نور العقل، يسلط ضوءاً مثيراً يبدد ظلام العقول… وداعاً «أبوزيد» فخسارتنا كبيرة برحيلك.
كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة