ما جرى بين المصريين حكاما ومحكومين خلال الثلاثين عاما الماضية لا يصل الى واحد من مليون مقارنة بما حدث بين الهوتو والتوتسي في رواندا، أو البيض والسود في جنوب أفريقيا، ومع ذلك قام البلدان بعمليات تسامح وتصالح ومغفرة للأطراف المعنية أدت في النهاية الى تحرك سريع لعجلة الاقتصاد بعد أن تفرغ الناس للحب والتعمير لا للحقد والتدمير.
عادت مصر 2011 الى مسار مصر 1952 ودعاوى التطهير والانتقام من رجال العهد السابق (محكمة الغدر) وبيع الأحلام التي أدت في النهاية الى كل النكبات والنكسات التي أصابت العهد الناصري. ان التاريخ ما خُلق إلا لتعلم الدروس والعبر منه، وواجب مصر أن تتسامح مع أبنائها، فقد تسامحت قبل ذلك وعبر معاهدة كامب ديفيد مع أعدائها، وان توقف عمليات «التأميم» الجديدة التي صودرت الثروات والممتلكات الخاصة من خلالها وأودع أصحابها السجون، كما يجب احترام العقود التي وقعتها الحكومة مع المستثمرين والمطورين المصريين قبل الخليجيين والعرب والأجانب، فالأرض دون تعمير أو تطوير لا قيمة لها على الإطلاق وجميع الأديان والقوانين الوضعية تصل الى حد تمليك الأرض لمن يعمرها.
ومن روح الانتقام المتفشية الى بيع الأحلام الوردية الكاذبة كحال التسويق لدعاوى نصيب الفرد من الأموال التي سيتم استردادها، والأفضل منها خلق ثقافة واقعية جديدة تحث الناس على المزيد من العمل واتقانه، والمزيد من احترام الوقت واحترام قوانين الدولة وقوانين المرور وأعراف الاصطفاف بالدور، فبمثل هذه القيم والأعمال تنهض مصر وتغتني لا بفوانيس علاء الدين السحرية التي يسوّق لها الإعلام غير المسؤول هذه الأيام.
ومن بائعي الأحلام هذه الأيام د.فاروق الباز الذي رأى ان حل الزيادات السكانية و60 مليون مصري جدد ممن سيولدون حتى عام 2050، يكمن في خلق «ممر جديد» مواز للنيل يمتد في الصحراء الغربية من جنوب مصر حتى العلمين في شمالها يتم جلب الماء إليه من بحيرة ناصر عبر الأنابيب وتنشأ له طرق سريعة وسكك حديد و200 مدينة كبرى ونصف مليون قرية بكلفة إجمالية قدرها 24 مليار دولار (يا بلاش)، للمعلومة كلفة نقل المياه من جنوب ليبيا الى شمالها، أي نفس المسافة والمسمى النهر العظيم، أكثر من 25 مليار دولار، فكيف يتم توطين 60 مليون إنسان بكلفة أقل؟! وكيف يمكن التغلب على إشكالية العيش في الصحراء التي لم تتمكن حتى أميركا من التغلب عليها؟! ومن أين المياه ونصيب مصر يقل كل عام مع كل سد يقام في دول حوض المنبع؟!
ولا تقل عن غرابة المشروع وكلفته المتهاودة الا كيفية توفير الأموال اللازمة لذلك «الحلم»، حيث يقر د.الباز بعدم قدرة الدولة على تمويله وبعدم قبول القطاع الخاص لذلك التمويل، نظرا لعدم وجود مردود مالي له ـ كحال خطة التنمية الكويتية المتعثرة بسبب التمويل ـ ولا أعلم لماذا لا يتقدم د.الباز بفكرة أفضل وأسهل مجربة وقائمة ومعمول بها في كل الدول الغنية والمتقدمة وهي الحد من الانفجارات السكانية التي لم تعد تحتملها أرض مصر الصحراوية وثرواتها المحدودة؟! والحال كذلك مع كل دولنا العربية الأخرى.
آخر محطة:
(1) أنصح رئيس وزراء مصر د.عصام شرف بأن يقرأ أو يعيد قراءة كتاب «فلسفة الثورة» وسيجد أن مشكلته اليوم هي نفس المشكلة التي واجهها الرئيس عبدالناصر قبل 60 عاما، فالجميع يعيب وينتقد أفكار الجميع والكل يعرف حلولا لمشاكل الكل.
(2) من يتساءل عن ثروات أبناء «الرئيس» السابق التي تبلغ مئات ملايين الجنيهات من أعمالهم الحرة، عليه ان يسأل كذلك عن مصدر ثروات أبناء «الصحافي» السابق محمد حسنين هيكل، أطال الله في عمره وزاد من مصادر رزقه والتي تبلغ مليارات الدولارات!
(3) ثورة 25 يناير يجب أن تتحول سريعا الى متغير «موجب» لا «سالب» كما هو الحال القائم، فعندما تسأل عن تاريخ ضعف الإجراءات الأمنية أو هرب الاستثمارات العربية والأجنبية أو تفشي ظاهرة البلطجة أو توقف أعمال المسرح والسينما الفنية، أو تعطل أعمال البناء وتوقف مشاريع الصناعة والزراعة التنموية، أو ضعف العملة وظهور العجز في الميزانية، أو حتى تأخر ترتيب الكرة المصرية، تأتيك الإجابة دائما وأبدا بأن تلك المتغيرات حدثت بعد يوم 25 يناير!
(4) مصر ربع الأمة العربية، إن ضعفت ضعفنا وإن ضاعت ضعنا، والواجب على الجميع إخلاص النصح لها لا المجاملة والكلام الذي «لا يودي ولا يجيب»!
(5) فاتنا أن نذكر في مقال أمس فقدان الكويت لرجل الأعمال الكبير المرحوم وائل الصقر في ديسمبر الماضي، فله وللآخرين الرحمة والمغفرة «إنا لله وإنا إليه راجعون».