محمد الوشيحي

شعب… بصلعة ونظارة

كان الزعيم العربي الإفريقي الراحل معتاداً أداء صلاة العيد في الجامع القريب من قصره، وفي طريق العودة إلى قصره يسير موكبه ببطء، محاطاً بضباط الحماية الشخصية، كي يتسنى للزعيم تحية الجموع المحتشدة على جانبي الطريق.
وفي أحد الأعياد، وأثناء عودة الموكب من الجامع إلى القصر، فوجئ ضباط الحماية الشخصية برجل أصلع مهيب المنظر، يرتدي بذلة سوداء أنيقة، جسمه رياضي مشيق، نظارة سوداء معتمة تغطي عينيه، وفي أذنيه يضع سماعات صغيرة، ويجري بجانب سيارة الزعيم ويصدر أوامره بصوت عالٍ لضباط الحماية: «انتبه، على يمينك، الشاب ذو القميص الأزرق»، «أنت، ركّز نظرك على هذه السيدة ذات العباءة، في المرة المقبلة لا أريد أن أرى نساءً بعباءات على جانبي الطريق، فالعباءة هي الرداء الأنسب لإخفاء الأسلحة…».
وهكذا ظل الأصلع يصرخ ويوجه أوامره بصوت يسمعه الجميع، والضباط يتبادلون نظرات الدهشة وينفذون الأوامر، دون أن يعرفوا من هو هذا الرئيس الجديد لفريق الحماية، ويتساءلون في أذهانهم وهم يركضون ويتلفتون في محيط الموكب: «لا بد أن الزعيم اختاره دون أن يبلغهم، كان يجب إبلاغهم فهذا أمر لا مجال فيه للخطأ، لكن قد يكون الزعيم أبلغ الجنرال قائد الفريق الأمرَ ونسي الجنرال إبلاغهم، ثم إن هذا الوافد الجديد لم يتدرب بالتأكيد على حماية الشخصيات، إذ من الخطأ إصدار الأوامر بصوت عالٍ، بل بالهمس من خلال المايكروفونات الصغيرة المثبتة على ياقات القمصان».
واصل الموكب مسيره، وصاحبنا الأصلع ذو البذلة السوداء يصرخ هنا وهناك، إلى أن دخل الموكب باحة القصر، وترجل الزعيم من سيارته، واختفى في إحدى الفلل المتناثرة… هنا التفت صاحبنا إلى فريق الحماية وراح يربّت على زنودهم: «أحسنتم صنعاً لكن تذكروا جيداً ما قلته لكم، لا أريد أن أرى نساء بعباءات، ولا أريد كذا، ولا كذا»! تبادل أعضاء الفريق نظرات الدهشة، قبل أن يسأله القائد بأدب جم: «عفواً سيدي لم نعرفك… من أنت؟»، صمت صاحبنا برهة، وصمت معه الكون، ثم أطلق ساقيه للريح في اتجاه البوابة! هنا ارتفع صراخ الحراس وأعضاء فريق الحماية والخدم والمرافقين وهم يعدون خلفه: «قف قف قف» وألقوا القبض عليه، ليتبين أنه لا يحمل مسدساً بل غلاف مسدس خالياً، واكتشفوا لاحقاً أنه «مهووس» بهذا النوع من المغامرات، وبعد تفتيش منزله وجدوا أنه يحتفظ بأشرطة فيديو لهذا النوع من الأفلام والصور التي يظهر فيها كلها بصورة قائد فريق الحماية، وغير ذلك من العَته والهبل المدمس.
تطورت الأمور فتم فصل رئيس فريق الحماية وإنزال عقوبة قصوى عليه، وأُلقي بالمهووس في السجن، وتغير نظام الحماية بالكامل.
كتب بعد ذلك طبيب نفسي: «أرجوكم لا تقسوا عليه، يبدو أنه مصاب بالمرض الفلاني، وراح يشرح أعراض المرض، وكيف أن المصاب به سلمي لا يحب العنف وإن تظاهر به، وكيف أنه يتقمص الشخصية بصدق إلى أن تتلبسه بالكامل، تتلبس تفكيره وجسمه ونبرة صوته، ويكمن علاجه بتكرار شرح الأمر له، وتنبيهه بطرق مختلفة بأنه ليس قائد فريق حماية…
أنا مقتنع أن هذا المرض موجود، وأنه قد يتلبس جماعات وشعوباً، نحن في الكويت شعب كامل مصاب بهذا المرض، صدّقنا أننا في بلد ديمقراطي فرحنا نجري حول موكب الديمقراطية بنظاراتنا السوداء وصلعاتنا اللامعة، وصدقنا أن لدينا أدوات رقابة فجرينا حول موكبها بالسماعات الصغيرة والمايكروفونات المثبتة على ياقات قمصاننا، وصدقنا أن لدينا صحافة حرة فرحنا نصدر الأوامر ونمنع العباءات، وصدقنا وصدقنا وصدقنا، حتى تلبستنا الأوهام وسيطرت على تفكيرنا وجوارحنا ونبرة صوتنا.
بالله عليكم، هل لو كنا في بلد ديمقراطي حقيقي كان يمكن أن تختفي مليارات النفط رغم كل هذه الأجهزة المحاسبية؟ كيف يتم الاستحواذ على أراضي الدولة وتحويلها إلى مشاريع بالترسية المباشرة، وبسعر لا يكاد يُذكر بالعين المجردة، تحت أعين الأجهزة المحاسبية وفوق أنوفها؟… زوروا منطقة «الحزام الأخضر»، رئة الكويت، التي تضم «النافورة الراقصة» وتفرجوا على المشروع التجاري المقام هناك، ثم اسألوا أنفسكم: «مشروع تجاري بهذا الحجم، على أرضٍ في هذا الموقع، بكم كان يجب أن تُباع لو عُرضت على الجميع؟»، وإذا لم تجدوا الإجابة فأعطوني نظارة وسماعة… الله لا يهينكم.

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

احمد الصراف

الدرس الياباني

يميل الياباني، رغم أدبه الجم وأخلاقه العالية وأمانته ونظافته الى الكتمان، ويصعب بالتالي معرفة حقيقة مشاعره بسبب القناع غير المرئي الذي يضعه على وجهه. كما أن اليابانيين يؤمنون عموما بأنهم أفضل من غيرهم بدرجات، وبالتالي لا تمنح الدولة جنسيتها للغير عادة. كما كان الشعب الياباني طوال تاريخه، والعسكري بالذات، يتصف بقسوة كبيرة، وعانت شعوب كثيرة في جنوب شرق آسيا من فظائعهم ومذابحهم واعتداءاتهم الوحشية، ولكن نقطة التحول الرهيبة في تاريخ اليابان الحديث بدأت مع دخول اليابان الحرب العالمية الثانية إلى جانب المانيا وما تبع ذلك من هجومها الجوي على سواحل أميركا في «بيرل هاربر»، الأمر الذي أثار غضب أميركا ودفعها الى إسقاط قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونكاساكي ومن بعد ذلك احتلال اليابان وتعيين الجنرال ماك آرثر حاكما عسكريا. وقد كان لماك آرثر الدور الأكبر في خلق صورة اليابان الحديثة، فقد فرض مجموعة من قيمه الغربية على طريقة الحياة اليابانية، وأحدث تحولا هائلا في طريقة التربية، ونتج عن ذلك خلق مفاهيم ومعتقدات جديدة نتج عنها جيل مختلف في طبائعه وأخلاقه ومثله، بحيث أصبح الياباني اكثر ميلا للسلام وإلى المساهمة في مساعدة الغير، بعد ان تخلى تماما عن نزعاته الشوفينية وقلل من دور الدين في حياته وتخلى عن فكرة ألوهية الإمبراطور، وغير ذلك الكثير الذي ساهم في عظمة اليابان الحديثة. وقد بينت الكارثة الأخيرة، التي أصابت هذه الدولة المتقدمة، بعضا من طبائع الشعب الياباني النبيلة، حيث شاهدنا أن طرق تعبيرهم عن أحزانهم عادة ما تكون متحفظة، فلا شق جيوب ولا نتف شعر وضرب صدور وصراخ حتى لمن فقدوا أسرهم بكاملها، كما لم تسجل اي احداث نهب وسرقة وسلب. كما رأينا كيف يقف الياباني في طوابير الأكل والشرب دون تذمر أو تجاوز، وسجل صحافي غربي استغرابه الشديد عندما انقطعت الكهرباء عن سوبر ماركت كان يتواجد فيه، وكيف أن الزبائن أعادوا للأرفف ما بأيديهم من مواد وغادروا بهدوء دون تذمر أو سرقة شيء، وغير ذلك من التضحيات والتصرفات البالغة الدلالة.
فإذا كان بالإمكان تغييرعادات وتقاليد ومثل وأخلاق شعب بكامله من خلال مقررات دراسية، فلماذا لا نستفيد من هذه التجربة الناجحة بكل المقاييس؟ ألا تستحق دولنا جنرالا مثل ماك آرثر أو حتى «ماك موسى كوسا»؟

أحمد الصراف

سعيد محمد سعيد

توظيف القضايا المذهبية في الصراع السياسي (2)

 

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة يوم الأحد الماضي، اختتمت بالإشارة الى ما تتطلبه المرحلة الحساسة التي تمر بها بلادنا، وأن الجميع في حاجة الى أن يجتمع أهل البلاد تحت مظلة التسامح والمحبة والتآخي، ,خصوصاً أن جلالة العاهل الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الراعي الأول لهذا التوجه من خلال اللقاءات المستمرة مع علماء الدين الأفاضل كما يعلم الجميع… وكان التساؤل الذي طرحته هو: «ما الذي سيحدث لو استمر وجود نفر من ذوي الخطاب المتشدد في بث سمومهم القاتلة؟».

ومن حسن الطالع، أن استهل الحلقة الثانية اليوم بلقاء مهم للغاية! ففي الوقت الذي شهدنا فيه بضعة أصوات شديدة الهجوم على طائفة كبيرة في البلد تطالب بالنيل منهم وحرمانهم حتى من (الحياة) والاستهزاء بمعتقداتهم وسلب وطنيتهم وانتمائهم لهذه البلاد الكريمة سواء في تصريحات صحافية أو مقابلات فضائية أو في منتديات وغيرها، نجد ذلك اللقاء المهم، الذي التقى فيه وزير الداخلية الفريق الركن الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة يوم الثلثاء الماضي (12 أبريل/ نيسان 2011) مع رؤساء المآتم الحسينية، يضع الكثير من النقاط على الحروف بكل وضوح، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق المواطنين في ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، مع التحذير من التجاوز المضر بالسلم الاجتماعي وترشيد الخطاب الديني لما فيه المصلحة العليا.

إن ذلك اللقاء يكتسب أهمية بالغة كما أشرت، لكن دلالته الأولى أن واحداً من كبار المسئولين في الدولة وبوزارة سيادية، يفتح صدره لنقاش صريح وواضح مع قطاع له جذوره في البلد وهو قطاع المآتم الحسينية، ولهذا، يأتي التأكيد دائماً على ما أردت الوصول إليه، وهو مغبة الخلط بين المعتقد الديني والحراك السياسي، ولعلني أجد من الضرورة بمكان الإشارة أيضاً الى فضيلة الشيخ القطان! ففي خطبته يوم الجمعة الماضي (8 أبريل/ نيسان 2011)، قال إمام وخطيب جامع مركز أحمد الفاتح الإسلامي الشيخ عدنان القطان: «إن بعض الإعلاميين والصحافيين والخطباء والكتاب، يعملون من خلال مواقع عملهم على تأجيج الفتنة الطائفية وتفكيك المجتمع، ويقتاتون على الأحداث والأزمات»، وكانت ملاحظة فضيلته في محلها، وقد عايشنا ونعايش هذا النمط من الاعتياش على الأزمات.

ومن المهم أن نمعن النظر في دعوة فضيلة الشيخ القطان، فقد دعا المصلحين والمفكرين والعلماء والخطباء وأصحاب الرأي الى الابتعاد عن التجييش والتحريض مع الاحتفاظ بالرأي الآخر، وعلى أهل العلم إرشاد الضال، والواجب على العلماء والخطباء ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والمنتديات الإلكترونية، أن يتقوا الله في الشباب والوطن ويجعلوا منابرهم منابر رشد وإصلاح، وألا يخرجوا إلى موضوعات استفزازية تؤدي إلى تفكيك المجتمع، وتثير الفتنة الطائفية.

لماذا تناول فضيلته هذا المحور؟ والجواب في الخطبة ذاتها، فقد اعتبر فضيلته أن بعض الصحافيين والإعلاميين والخطباء لا ينتمون إلى الحوار المتعقل والطرح المتزن والنقاش المنصف، بل تطغى في كتاباتهم وتحليلاتهم الانتهازية والطائفية، اقتياتاً على الأحداث وعيشاً على الكوارث، لا يناقشون المشكلة من أجل حلها، بل يتوجهون باتهام بعضهم بعضاً، ويتعدون على العرف السائد، وأعراف أهل الإسلام التي تعود إلى دينهم.

نكمل يوم الأحد المقبل إن شاء الله