توصف مجتمعاتنا عادة بالرحيمة، وهذا غير واقعي، فمن سمات الرحمة مساعدة ذوي الحاجة من دون مقابل، ولكن التطوع عادة لا تعرفها عاداتنا ولا تقاليدنا… العريقة، والتي تختزل مرات في عادة حمل بعض المسؤولين للخيازرين أثناء أداء مهامهم!
«نفيسة» سيدة هندية، كانت تعمل في وظيفة مرموقة قررت قبل سنوات التفرغ للعناية بصحتها وابنائها، وعندما استعادت عافيتها وسافر ابناؤها للدراسة أصبح لديها وقت فراغ فتطوعت لرعاية مرضى السرطان، من منطلق ما سبق ان عانته، وعاناه أهلها واصدقاؤها من هذا المرض الخبيث. بدأت نفيسة تجربتها في وحدة استقبال المرضى بـ «حسين مكي»، وهناك لاحظت مدى الأسى الذي كان يرتسم على الوجوه والخوف الرهيب مما يحدث، وكيف كان البعض يفقد الأمل ويصاب بالانهيار، وكان الجميع تقريبا بحاجة لمن يقف معهم ويزرع الأمل في قلوبهم. وتقول انها كانت تجلس لساعات تحثهم على ان يكونوا مقاتلين وألا يستسلموا، وكيف كانت تستمع لآمالهم المحطمة وآلامهم اليومية، هذا غير الشك في أهداف وسبب وجودها في ذلك المكان المغم، وهي الغريبة عنهم، لغة وعرضا، فالغالبية لم تكن تتقبل بسهولة فكرة تطوع سيدة مثلها للقيام بعمل مرهق من غير مقابل، ولكن عندما كانوا يطمئنون لها كانت الأيدي تمتد طالبة منها الوقوف معها. وتقول نفيسة ان عدم معرفتها العربية شكل عائقا أمامها، وبالتالي قصرت تواصلها على المتحدثين بالإنكليزية من المواطنين وغيرهم أو الهندية، وقالت انها لا يمكن ان تنسى كلمات التقدير التي كانت تسمعها في نهاية عملها المضني، وكيف ان ما أعطتهم إياه من دفع معنوي لم يكن يقل عن الدفع الكيميائي الذي كانوا يحصلون عليه، وانها لن تنسى ما حيت ما قالته لها مريضة يوما انها كانت تصلي أن ترسل السماء لها من يقف بجانبها قبل دخولها غرفة العمليات، وانها كانت الملاك الذي جاء في أكثر لحظات عمرها قلقا ورهبة. وانها كثيرا ما رسمت كلماتها ابتسامات الرغبة في الانتصار على المرض على الوجوه قبل دخول اصحابها غرفة العمليات. وتقول انها لا تدعي ان عملها شفى أحدا من مرضه، ولكنها كانت ترى نتائج ايجابية، بالرغم من حجم الإرهاق النفسي الذي كانت تشعر به. وكان الأسى يثقل عليها أحيانا عندما كانت العلاقة مع المريض تتطور وتصبح شخصية، خصوصا مع أولئك الذين استقبلتهم أول يوم ورافقت مراحل علاجهم، ورأت تأثير العلاج الكيمو الرهيب عليهم، وما رافق ذلك من مشاركة وجدانية وقصص وأحلام وآمال، ثم لتكتشف في يوم أن الذي كانت معه بالأمس قد رحل فجأة في الليلة الماضية! وتقول نفيسة انها، وبعد سنوات عدة في مجال التطوع، تشعر برضى نفسي لما قدمته، وأصبحت خبراتها تحتاج لأن تنقل لشخص ما، وخصوصا لمواطن، ولكن ما أقل هؤلاء بيننا!
أحمد الصراف