سامي النصف

مصر فوضى غير خلاقة.. وليبيا ثورة قبل وقتها

الوضع في مصر خطير جدا، وخارطة الطريق القائمة تبتعد بمقدار 180 درجة عن خارطة الطريق الصحيحة التي يفترض ان تحيل ثورة 25 يناير الى ثورة خلاقة جميلة توفي بوعودها للصابرين والحالمين والمنتظرين، ما يحدث في مصر هو فوضى «هدامة» لكل شيء جميل، فالأمن الذي تشتهر به مصر بدأ يُفقَد للمرة الاولى في تاريخها والاستثمارات تفر والسواح محجمون وخائفون والاقتصاد في طريقه بالتبعية للهاوية، ومع توقف الاقتصاد تبدأ الازمات السياسية والتمزقات الطائفية والتطاحنات الاهلية والمناطقية والتشتيت والتشطير، وربنا يحفظ مصر العزيزة مما هو قادم.

في اوروبا الشرقية، خرج الناس للشوارع في ثورات عارمة لكن ما ان سقطت الانظمة حتى ابتعدوا عن عمليات الانتقام ورجعوا سريعا لمصانعهم ومزارعهم ومقار اعمالهم وتركوا الخبز لخبازه وادارة الدولة لمحترفيها من دون تدخل منهم، ما يحدث هذه الايام في مصر قريب جدا مما حدث عام 1952 والدعوة المدمرة آنذاك لبقاء الثورة مشتعلة بشكل دائم لمحاربة ما سمي بالثورة المضادة ومن ثم عدم عودة الضباط الصغار ممن لا خبرة سابقة لهم في ادارة الدولة الى ثكناتهم ومقرات أعمالهم.

وقد قامت الثورة آنذاك بتشجيع الفوضى واثارة الاحقاد والزج بكبار رجال الاقتصاد في السجون بتهم الفساد وتحت راية التطهير، وقد ثبت زيف تلك الدعاوى بعد عشرين عاما «وبعد خراب البصرة» وتم رد الممتلكات لأصحابها في السبعينيات والثمانينيات، وكحال الضباط الصغار في الخمسينيات يتم هذه الايام تسليم زمام الامور في بلد بحجم مصر الى شباب في العشرينيات من عمرهم مما يمهد لتكرار نفس الاخطاء والنكبات مع فارق عدد السكان الذي تضاعف من عشرين مليونا الى 84 مليونا هذه الايام، للمعلومة العودة الى ما فعله شباب الثورة الثقافية في الصين اعوام 1966 ـ 1976 تعطي فكرة عما تفعله الدماء الحارة والثورات الدائمة في مصير الامم، حيث كفر الشعب الصيني بالشيوعية بعد تلك الثورة الشبابية الدامية.

مع الزج بكبار مطوري الاراضي والمستثمرين المصريين في السجون، سيكون هناك 11.5 مليون مصري عاطل عن العمل في قطاع الانشاء والبناء، يضافون الى 5 ملايين عاطل مسجلون رسميا حاليا و3 ملايين عاطل من القطاع السياحي المتوقف و2.5 مليون عاطل عائدون من دول الثورات كليبيا واليمن والاردن وتونس وملايين اخرى عاطلة عن العمل في المصانع والمزارع والمخابز والمحلات والبنوك وقطاعات التجزئة التي لا تجد مشتريا، فمن اين ستدفع رواتب العاملين؟ الجوع كافر والاشكالية الجهنمية تكمن في حقيقة انه مع زيادة العاطلين سيكثر التعدي على السائحين والمستثمرين مما سيتسبب في ابتعادهم ومن ثم زيادة اعداد العاطلين اكثر واكثر وهكذا دواليك.

تعامل الشباب الثوري الذي يقوده رجال اعلام وساسة ليسوا فوق مستوى الشبهات يزيد الوضع تشاؤما، فبدلا من الاكتفاء بالعقاب الشديد للمنحرفين والمتجاوزين في الاجهزة الامنية والحزب الوطني، يتم «تعميم» العقاب والمطالبة بحل جهاز امن الدولة الذي يعمل به 100 الف رجل امن مختص ومعه المطالبة باجتثاث وعزل منضوي الحزب الوطني واعدادهم بالملايين، فما الذي سيتفرغ له من تم عزلهم؟ الارجح سنرى تكرارا لما حدث في العراق من تفرغ المعزولين من رجال الامن والحزب لعمليات التخريب والتفجير والتشطير ومحاولة اشعال حرب اهلية، فهل هذا هو المطلوب في مصر؟!

الوضع المأساوي القائم في مصر الحبيبة اشترك في صنعه والوصول إليه بعض رجال العهد السابق بفسادهم وقمعهم الشديد، ومعهم رجال اعلام وكتاب ورجال اعمال ـ وبتواطؤ من قيادات امنية ـ تفرغوا خلال السنوات الماضية وبشكل غريب للتحريض والتأجيج والتثوير عبر خلق الصحافة الرصيفية الصفراء والبرامج الفضائية المؤججة والكتب (مثال كتاب د.علاء الأسواني الصادر العام الماضي المعنون: لماذا لا يثور المصريون؟)، والافلام السينمائية المبشرة بالخراب، لذا فالعجب ليس من ثورة الشعب المصري بل العجب هو عدم ثورته، الاعجب ان تسويد الصورة لم يكن انعكاسا حقيقيا لأوضاع مصر او حتى لأوضاع رجال الاعلام المثورين ممن كانت دخولهم تتجاوز الملايين شهريا او رجال الاعمال الغاضبين ممن تجاوزت ثرواتهم المليارات.

آخر محطة:

1 ـ مع الايام الاولى لثورة الشعب الليبي الذي توقع اغلب الناس ان تنتهي سريعا بانتصارها كما حدث في تونس ومصر، ذكرنا في مقالنا 23 و26 فبراير ان الامر اقرب الى ثورة 14 محافظة في العراق عام 1991 التي انضجت قبل حينها مما مهد لقمعها بوحشية وتثبيت حكم صدام لعشرة اعوام لاحقة.

2 ـ تصريح احمد قذاف الدم المؤيد للثورة والتغطية الاعلامية المؤججة والاسلحة الحكومية المخزنة في بنغازي قد تدل على ان هناك من اراد انضاج الثورة الليبية قبل حينها ليتم قمعها وتثبيت اركان النظام الجالس على جماجم الشعب الليبي المظلوم، ولن نستغرب بقاء الحرب الاهلية الليبية لسنوات قادمة، فقد اطال القذافي امد الحرب الاهلية اللبنانية والحرب العراقية ـ الايرانية واشعل العديد من الحروب الاهلية في الدول الافريقية، فكل دمار وخراب ونار يقف خلفه.. نيرون العصر.. صدافي..!

3 ـ منذ ربع قرن القذافي يتدخل سرا عبر ابن عمه قذاف الدم ومن معه بالشأن الداخلي المصري، وحفظ الله مصر من مؤامراته المدمرة والمخربة.

احمد الصراف

نفيسة ونادرة

توصف مجتمعاتنا عادة بالرحيمة، وهذا غير واقعي، فمن سمات الرحمة مساعدة ذوي الحاجة من دون مقابل، ولكن التطوع عادة لا تعرفها عاداتنا ولا تقاليدنا… العريقة، والتي تختزل مرات في عادة حمل بعض المسؤولين للخيازرين أثناء أداء مهامهم!
«نفيسة» سيدة هندية، كانت تعمل في وظيفة مرموقة قررت قبل سنوات التفرغ للعناية بصحتها وابنائها، وعندما استعادت عافيتها وسافر ابناؤها للدراسة أصبح لديها وقت فراغ فتطوعت لرعاية مرضى السرطان، من منطلق ما سبق ان عانته، وعاناه أهلها واصدقاؤها من هذا المرض الخبيث. بدأت نفيسة تجربتها في وحدة استقبال المرضى بـ «حسين مكي»، وهناك لاحظت مدى الأسى الذي كان يرتسم على الوجوه والخوف الرهيب مما يحدث، وكيف كان البعض يفقد الأمل ويصاب بالانهيار، وكان الجميع تقريبا بحاجة لمن يقف معهم ويزرع الأمل في قلوبهم. وتقول انها كانت تجلس لساعات تحثهم على ان يكونوا مقاتلين وألا يستسلموا، وكيف كانت تستمع لآمالهم المحطمة وآلامهم اليومية، هذا غير الشك في أهداف وسبب وجودها في ذلك المكان المغم، وهي الغريبة عنهم، لغة وعرضا، فالغالبية لم تكن تتقبل بسهولة فكرة تطوع سيدة مثلها للقيام بعمل مرهق من غير مقابل، ولكن عندما كانوا يطمئنون لها كانت الأيدي تمتد طالبة منها الوقوف معها. وتقول نفيسة ان عدم معرفتها العربية شكل عائقا أمامها، وبالتالي قصرت تواصلها على المتحدثين بالإنكليزية من المواطنين وغيرهم أو الهندية، وقالت انها لا يمكن ان تنسى كلمات التقدير التي كانت تسمعها في نهاية عملها المضني، وكيف ان ما أعطتهم إياه من دفع معنوي لم يكن يقل عن الدفع الكيميائي الذي كانوا يحصلون عليه، وانها لن تنسى ما حيت ما قالته لها مريضة يوما انها كانت تصلي أن ترسل السماء لها من يقف بجانبها قبل دخولها غرفة العمليات، وانها كانت الملاك الذي جاء في أكثر لحظات عمرها قلقا ورهبة. وانها كثيرا ما رسمت كلماتها ابتسامات الرغبة في الانتصار على المرض على الوجوه قبل دخول اصحابها غرفة العمليات. وتقول انها لا تدعي ان عملها شفى أحدا من مرضه، ولكنها كانت ترى نتائج ايجابية، بالرغم من حجم الإرهاق النفسي الذي كانت تشعر به. وكان الأسى يثقل عليها أحيانا عندما كانت العلاقة مع المريض تتطور وتصبح شخصية، خصوصا مع أولئك الذين استقبلتهم أول يوم ورافقت مراحل علاجهم، ورأت تأثير العلاج الكيمو الرهيب عليهم، وما رافق ذلك من مشاركة وجدانية وقصص وأحلام وآمال، ثم لتكتشف في يوم أن الذي كانت معه بالأمس قد رحل فجأة في الليلة الماضية! وتقول نفيسة انها، وبعد سنوات عدة في مجال التطوع، تشعر برضى نفسي لما قدمته، وأصبحت خبراتها تحتاج لأن تنقل لشخص ما، وخصوصا لمواطن، ولكن ما أقل هؤلاء بيننا!

أحمد الصراف