«.. منذ ان غادرت لبنان عام 1976 لأقيم في فرنسا، كم مرة سئلت، وعن حسن نية، اذا كنت اعتبر نفسي فرنسيا اكثر ام لبنانيا، او العكس، وكنت اجيب على الدوام: الاثنان معا، وغير ذلك كذب، فإن ما يجعلني على ما انا عليه وليس شخصا آخر هو وقوفي على تخوم بلدين ولغتين او ثلاث وعدد من التقاليد، هذا بالضبط ما يحدد هويتي، فهل اكون اكثر اصالة لو اقتطعت جزءا مما انا عليه؟ وهل انا نصف فرنسي ونصف لبناني؟ ابدا، فالهوية لا تتجزأ!».
هذا ما كتبه الاديب الفرنسي أمين المعلوف في كتابه القيم «الهويات القاتلة»، الذي ذكر فيه ان الذي يحمل هوية مركبة يجد نفسه بالتالي مهمشا، فالشاب المولود في فرنسا من أبوين جزائريين يحمل هويتين واضحتين، ويجب ان يكون قادرا على الاضطلاع بهما معا، ولكن مكونات شخصيته اعمق من ذلك بكثير، فسواء تعلق الامر باللغة او المعتقد او نمط الحياة او العلاقات والأذواق فإن المؤثرات الاوروبية الغربية تختلط لديه بالمؤثرات العربية والبربرية والافريقية الاسلامية، وانها مغامرة غنية وخصبة لو تمكن هذا الشاب من خوضها بحرية، ولو وجد من يشجعه على تبني تنوعه كاملا. وعلى العكس قد يكون مساره مليئا بالصدمات اذا ما نظر اليه البعض في كل مرة يعلن فيها انه فرنسي كأنه خائن ومرتد، ويصطدم في كل مرة يشهر فيها روابطه مع الجزائر وتاريخه وثقافته ودينه بعدم التفهم والتشكيك والعدائية، وهناك امثلة عديدة اخرى، ففي كل فرد تجتمع انتماءات متعددة تتعارض احيانا في ما بينها فترغمه على خيارات مؤلمة!. ويتساءل المعلوف: هل تبقى مجتمعاتنا خاضعة ابدا للتوترات وسورات العنف لمجرد ان الناس المتعايشين معا ليسوا من الدين نفسه او اللون او المنبت الثقافي؟ وهل هناك من قانون طبيعي او شرعة تاريخية تلزم الناس التقاتل باسم هويتها؟
لو نظرنا الى المجتمع الكويتي لوجدنا مدى انطباق كلام الاديب الفرنسي على اوضاعه، وكيف ان الخوف من التخوين والولاء للخارج دفع الكثيرين من مزدوجي الثقافة اما الى الانطواء او المزايدة في الانتماء للاكثرية، لكننا في جميع الاحوال قتلنا روح الابداع داخل هؤلاء، التي كان من الممكن ان تكون مصدر ثراء للمجتمع برمته، فمن خلال تجاربي الشخصية اعرف الكثيرين ممن لهم اعمال ابداعية في الادب الفارسي او الغناء العراقي او الفنون الغربية بشكل عام، اما نتيجة الميلاد او اصل الام او مكان الدراسية، الا ان ابداعاتهم طمست بطريقة او باخرى نتيجة الضغوط الاجتماعية التي تميل الى عدم الترحيب بمثل هذه الابداعات وغيرها انها «اجنبية وعدوة»! واتذكر في زمن الصبا والتسامح الجميل ان اصحاب الثقافات المتعددة من الطلبة الهنود والفلسطينيين والايرانيين وغيرهم، وحتى الكويتيين من طلبة «المدرسة الجعفرية» الذين انتقلوا الىالمدارس الحكومية، كانوا اكثر استيعابا للمهارات اللغوية والرياضيات مقارنة بغيرهم، وكانوا بشكل عام اكثر فهما وابداعا، الى ان جاءت موجات التعصب القومية ومن بعدها «الصحوة الدينية» لتجذر الاختلافات بين الجميع، و«تدفن» كل ابداع. فهل سيعود الزمنالجميل؟ لاأعتقد ذلك!
أحمد الصراف