حسن العيسى

ثلاثة من أحلام الأمس

الزمن يتدفق إلى الأمام، واللحظات تمر من المستقبل المجهول محمّلة بالاحتمالات لتستقر في يقين الماضي، فلا لحظة حاضر، وإنما مستقبل كله احتمالات، وماضٍ رُسمت بعض صوره على صفحات الذكرى، وهي ذكريات حين كنا نستمع للإذاعة وميكروفون المذيع يتنقل بين الحجاج، وينقل رسالة من عبدالعزيز البلوشي ورسالة أخرى من عبداللطيف بن ناجي ينقلان سلامهما وتحياتهما إلى أهلهما وأقاربهما في الكويت ويقولان إنهما رميا الجمرات بالأمس وإنهما بخير وعافية… كنا نستمع في ذلك العمر إلى رسائل الحجاج بابتسامة بهجة وضحك خافت على رسائلهم بعفويتها وبراءتها، وكنا نهرول في المساء لنلصق الأذن على سماعة الراديو لنفتح في الساعة الثامنة مساء على إذاعة "صوت العرب" وننصت بكل شوق إلى حكايات ألف ليلة وليلة… وكيف أدرك شهرزادَ الصباح فسكتت عن الكلام المباح، وقالت "مولاي" … فقد غلبها النعاس.

هكذا كنا بخدر الأمس الجميل، وهكذا شاهدت البارحة شريط "يوتيوب"، تنقلت الكاميرا فيه إلى قرية إنكليزية في بداية ستينيات القرن الماضي، ويظهر الطالب إبراهيم بورسلي يحدّثنا عن حلمه وحلمنا معه بأنه جاء من لندن إلى هذه القرية وهو يدرس الهندسة في المملكة المتحدة ويعِد بأنه سيعود إلى الكويت ليساهم في بناء الكويت، ثم لقطة أخرى ليظهر لنا الشاب أحمد علي الدعيج ويقول إنه يدرس في لندن العلاقات الدولية ويحمل الحلم ذاته بالعودة للكويت قريباً… ثم لقطة ثالثة لبدر حمد سلطان وهو يجلس في مقهى ثم يضع جانباً الجريدة التي كان يقرأها، متحدثا إلى الكاميرا بأنه قد مضى عليه أربع سنوات في لندن يدرس الطب، مشاركاً رفيقَيه حلم العودة للوطن قريباً ليرى الكويت الجديدة ويساهم في بنائها.

ثم تمضي الكاميرا بلقطات أخرى تعبر بنا مساحة من المكان، والمكان هو الزمان عام 1962 لنرى مَشاهدَ لعمال يبنون عمارات في شارع الجهرا (فهد السالم)، ثم مشاهد أخرى لطرق جديدة تُعبَّد وناس يشتغلون بلا كلل… كانوا ثلاثة شباب بعمر الربيع، واحد يهندس الأمل، والثاني يخطط للغد، والأخير يريد أن يداوي الأمل… ثلاثة نماذج لشباب الأمس تمثلت في المهندس والسياسي الاقتصادي والطبيب المداوي، حملوا في غربتهم أحلام الدولة وأحلامنا الكبيرة… ثم ماذا بعدها؟ لا أعلم شيئاً عن المهندس إبراهيم بورسلي، ولكني أعرف أن أحمد الدعيج تخرّج متفوقاً في جامعة عريقة بلندن ثم عمل في مجلس التخطيط، وبعدها في الاستثمارات على ما أذكر، ومات بحادث سيارة في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بعد أزمة المناخ، وكتب كتاباً رائعاً عن الأزمة، كما سطر مقالات ملتهبة قبل رحيله، أما بدر حمد السلطان، فقد تخرج طبيباً متخصصاً في أمراض النساء والولادة، وبرع في عمله، وكان شعلة من النشاط، وعُيِّن مديراً في ما بعد لمستشفى شركة نفط الكويت. كان يخدم القريب والبعيد من غير حساب، إلا أن حظه كان عاثراً في حياته الخاصة… وأصيب بالاكتئاب بعد التحرير، ولم يمضِ وقت طويل حتى مضى إلى عالم الفناء.

هؤلاء الشباب الثلاثة مثلوا أمل الطليعة الكبير في تلك الأيام، حملوا أجمل الأحلام في أجمل الأيام، كانت أيام ولادة الدستور، وولادة التشريعات الحديثة، وبداية العمران، كانت أيام الانفتاح الثقافي، وأيام التسامح الاجتماعي. مات اثنان من الثلاثة، وكان هذا حكم القدر، لكن لم يكن من حكمه أن تموت أحلامنا بالدولة العصرية، لنصحو اليوم على واقع القهر… فما السبب؟ اسألوا أصحاب المقام الرفيع دافني الأحلام… ماذا فعلتم بأحلام الأمس؟!

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *