محمد الوشيحي

«بو عزّوز» الهندوراسي

إلى الحضانة الفرنسية، اصطحبت المدعو "بو عزّوز"، الطفل الطاعن في الشر، صديق الدم وجليس الكوارث، واسمه سعود الوشيحي ذو الشعر الأكرت والأعوام الثلاثة. وهو ابن محمد الوشيحي الذي يجري البحث عنه الآن في مصر، كما يقول أحد المحامين، والذي دوّخ الداخلية المصرية السبع دوخات، وعلى وشك الثامنة. وهو (أي بو عزّوز) ابن حفيد حسين الوشيحي أول مَن جسّد وحدة الخليج العربي على أرض الواقع، عندما طاردته الكويت والسعودية فلجأ إلى البحرين. وهو حفيد حفيد عايض الوشيحي الذي طاردته الدولة العثمانية بعد أن كرّ على موكب "الكومندان العثماني" وطعنه وقتل مساعده، ولاذ بالفرار إلى هذه اللحظة، ويبدو أنه لايزال يجري هارباً إلى اليوم، وربما وصل إلى الهند وتزوّج ورزقه الله بأبناء هندوس، وربما توقف في إيران للاستراحة، فراقت له إحدى النساء فتزوّجها وأنجب أبناء انضمّوا لاحقاً إلى الباسيج، أو ربما اتجه جنوباً إلى اليمن، حيث أجداد الأجداد، فتزوج فأنجب مجموعة من الحوثيين، أو قد يكون اتجه غرباً إلى السودان، فتزوج فأنجب مجموعة من الانفصاليين أنصار "جون غارانغ"… الله أعلم.
اصطحبتُ ابن المطاريد هذا إلى الحضانة الفرنسية وأنا أرفع صوتي بأهازيج الحرب وهو يردد خلفي: "جيناكم والموت جاكم، جيناكم ننتف لحاكم"، اصطحبته وكلّي أمل أن يتعلم الموسيقى وثقافات الشعوب المحترمة وأسباب تطورها، ويتفهم طبيعة اختلاف الأديان والمذاهب والطوائف، فلا يحمل عُقَداً ولا ضغينة على أحد، وكلي عشم أن يُصبح ليبرالياً، فيتهمه أقرباؤه أبناء المدارس الحكومية بالانسلاخ من جلده و"التلزّق" بالحضر، على اعتبار أن "الحضر" هم الذين اخترعوا الليبرالية وهم ملّاكها الحصريون (من بين كل الحضر ستجد سبعة ليبراليين بحق وحقيق، والبقية أدعياء ومزوّرون في أوراق الليبرالية وتجار شنطة، ومن بين كل البدو ستجد تسعة ليبراليين حقيقيين لا غير، ليبراليتهم "منقّبة" لا يظهر منها إلا عيناها، خشية أن يتبرأ منهم أقرباؤهم، ومن بين الشيعة كلهم ستجد ليبرالياً واحداً فقط هو الكاتب أحمد الصراف… آخر قطعة).
وفي قاعة الاستقبال شاهد بو عزوز مجموعة من الأطفال مع أمهاتهم، فاقترح عليّ فكرة: "أطقّهم؟" أي أضربهم؟، فرفضت اقتراحه رغم وجاهته، وتمعّنت في وجوه ضحايا المستقبل، وقرأت عليهم الفاتحة مقدماً، وأدرت عينيّ في المبنى أتفقده قبل وقوع الأضرار… لكن لحسن حظ الضحايا والمبنى اعتذرَت إدارة الحضانة عن عدم تسجيله لامتلاء الفصول، فالتفتّ إليه وقلت بصوت "ينتّع" لم يتبقّ منه إلا قطرتان لا ثالث لهما: "مشينا، وسألحِقك برياض الحكومة ومدارسها، كي تتخرج طائفياً، فتقتل أحدهم وتهرب إلى "الهندوراس" وتتعرف على لصوص استثماراتنا المقيمين هناك".  

حسن العيسى

على هامش الغفران

في رد الراحل الموسوعي لويس عوض على محمود شاكر وجلال كشك وغيرهما حين هاجموا وانتقدوا كتابه "على هامش الغفران" كتب لويس عوض تلك الكلمات في مقدمة كتابه رداً عليهم، ولعلها- بعد نصف قرن- تصير إبرة في عضل الأولياء الصالحين على معرض الهباب الكويتي القادم، فكتب لويس "… بقي أمامنا شيء واحد جدير بأن ينظر فيه: وهو أن المنهج الذي التزمته في هذه الدراسة عن أدب الآخرة بصفة عامة وعن رسالة الغفران بصفة خاصة، وهو من أولويات الأدب المقارن، هو في ذاته مصدر إزعاج للمحافظين من الأدباء والعلماء، لأن معناه فتح باب الاجتهاد من جديد في دراسة تراثنا، وهو ما لا يطيقه المحافظون لأنه قمين بأن يخلخل كثيراً من آرائنا، ومعتقداتنا الخاطئة الثابتة عن التراث. وهم ينسون أن الازدهار الأكبر في الفكر العربي إنما اقترن بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه أيام مجد العرب في الدولة العربية الكبرى خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، وأن انتكاسة العرب بعد الدولة العباسية الثانية لم تقترن بتفككهم السياسي فحسب، بل اقترنت أيضاً بإغلاق باب الاجتهاد منذ آل السلطان إلى المماليك والأتراك، لا ريب بسبب هذا الضعف السياسي ذاته: فالضعيف في ميكانيكية الدفاع عن النفس، وحده هو الذي يخشى الفكر الحر والبحث الحر ويرتعد أمام العلم والعقل والتجدد بوثبات الخلق وبالرؤيا الرحيبة الآفاق. والضعيف وحده، في جزعه على ذاته، هو الذي يخشى محاكمة النفس ومواجهة النفس ونقد النفس، وإحصاء ما يملك حقاً من عدة وعتاد، ويؤثر أن يعيش في عالم من أوهام الكمال وأكاذيب الفردانية المأثورة عن جنة المجانين…".
إذن، الضعفاء المفتقدون الثقة بالذات عند لويس عوض هم الذين يخشون ويهابون الرأي الآخر، والفكر الآخر. يخافون أن يخطوا ولو خطوة واحدة خارجين من سجون ثوابت يقينهم المطلق الذي أملي وفرض عليهم، ثم قاموا بدورهم، بإملائه وفرضه على الأجيال التي تليهم، وأخذوا يراوحون في مكانهم، يدورون كمعتوهين في دائرة التخلف والجمود. فالجديد يهز قناعتهم الراسخة، والجديد يزلزل الأساطير التي تضج في وجدانهم. الآخر، والإبداع، والتجديد، كلها تنقلهم من عالم الوهم والخرافة إلى عوالم البحث عن الحقيقة، والقلق الإنساني الكبير، وهو قلق الوجود الذي يخافونه وترتعد فرائضهم من نبشه… فليبقوا في مستنقعاتهم الآسنة، فولاتهم كذبوا عليهم وقالوا لهم إن مستنقعهم هو قصر السعادة بداية ونهاية… وصدق العبيط حدوتة "كان ويا ما  كان".

احمد الصراف

الهيلق والفكر الخرب (1 – 2)

الهيلق كلمة محلية كويتية، تطلق أحيانا على نوعية المساكين والجياع، كما تطلق على السنوات العجاف التي مرت على الكويت والمناطق المحيطة بها في عام 1867، والتي قاسى منها الجميع لفترة طويلة، وكان الكويتيون يؤرخون أحداث يومهم ومواليدهم بما قبل أو بعد سنة الهيلق. وبالرغم من أهمية الحدث فإن مراجع تاريخية مهمة لم تتطرق اليه، كما نجد تضاربا واضحا في مراجع أخرى. ففي كتاب «تاريخ الكويت» لأحمد أبو حاكمة، لم يرد للحادثة ذكر، بالرغم من أهميتها. وكذلك الأمر في رد المؤرخ حمد الجاسر على أبو حاكمة. ولكن المؤرخ عبدالعزيز الرشيد ذكر الهيلق في كتابه «تاريخ الكويت» ص 95 في معرض حديثه عن الحوادث الشهيرة. وفي «الويكيبيديا»، أو الموسوعة الحرة، نجد ان سنة «الهيلق» هي التي حلت فيها على الكويت مجاعة، وكان ذلك في عهد الشيخ عبدالله بن صباح الصباح سنة 1867. وتعني الكلمة الهلاك أو الهلك. وفي تلك السنة وما تلاها تعرضت الأقاليم المجاورة لإمارة الكويت لجفاف هائل لم يكن بالحسبان. وكانت الكويت متحصنة ولديها إمكانية العيش ومقاومة الجفاف فأصبحت قبلة هؤلاء المنكوبين. وكانت يد الخير تنتظرهم حيث أمدّ الخيّرون الجياع بالمال والطعام والمأوى، وبقي بعض هؤلاء في الكويت طوال فترة المجاعة، واستقروا بها وعاد البقية الى أوطانهم. وقد أرّخ الكويتيون تلك المجاعة التي عمت المنطقة ثلاث سنوات عجاف، من 1868 حتى 1871، وبلغت فارس التي هاجر الكثير من أبنائها إلى الكويت، وقام المحسنون هنا بنثر الطعام في الاسواق والطرقات، وقد اشتهر منهم عبداللطيف العتيقي، يوسف البدر، يوسف الصبيح، سالم بن سلطان وبيت ابن ابراهيم.
وفي الشبكة الوطنية على الإنترنت ورد أن الهيلك (بالكاف) جزء من تاريخ الكويت، وهي سنوات عجاف، وفي نجد أطلقوا عليها سنوات «المسغبة»، وأن المجاعة ضربت مناطق من إيران بعد أن انحبس المطر عنها سنوات، وأن المجاعة ضربت الكويتيين واضطرتهم الى أكل(!) دماء البهائم التي تذبح ابتداء من سنة 1285، ولم تنته المجاعة الا في سنة 1288، وكان لرجلين من أفاضل الكويتيين والاثرياء يد بيضاء في تلك الازمة الشديدة، وهما يوسف البدر ويوسف الصبيح، اما الاول فكان يفرج كربات المعوزين والمحتاجين بما يبذله لهم من المال، واما الثاني فاتخذ له بيتين احدهما في الكويت والثاني في الزبير يأوي اليهما الفقراء، وكان يقوم في كليهما بمد ما يحتاجه الاحياء من طعام وكسوة وتجهيز من يتوفى منهم. وكتب الشاعر الاخرس قصيدة في هذين الرجلين بعث بها الى احد من آل المخيزيم قال فيها:
«ان الكويت حماها الله قد بلغت باليوسفين مكان السبعة الشهب
تالله ما سمعت أذني ولا بصرت عيني بعزهما في سائر العرب
فيوسف بن صبيح طيب عنصره اذكى من المسك ان يعبق وان يطب
ويوسف البدر في سعد وفي شرف بدر الأماجد لم يغرب ولم يغب».

أحمد الصراف