سبق أن تطرقنا لموضوع قلة اهتمام مثقفي الرأي وأصحابه في مجتمعاتنا، بما يجري في العالم من أحداث، وهذا يعود إما لتواضع معارفنا، أو عدم اكتراثنا بما يجري حولنا أو بسبب الكم الكبير من المشاكل التي تحيط بنا والتي تشغلنا عن الاهتمام بغيرها، ولكن الصورة عكس ذلك لدى الغير، خاصة في الدول الغربية، حيث يبدي البعض هناك اهتماما متزايدا بقضايانا وكوارثنا. والغريب أننا عندما نحاول الدفاع عن موقف أو وجهة نظر طرف آخر، وبالذات أميركا وإيران وإسرائيل، نتعرض لمختلف تهم الخيانة والعمالة لأطراف خارجية!
تطرق كيث أولبرمان، المعلق الأميركي المعروف، في قناة nbc يوم 8/16 لقضية المسجد المزمع بناؤه على أرض مركز التجارة الدولي في مدينة نيويورك، وهو المركز الذي هدمه الفكر العربي الإسلامي المتطرف، في 11 سبتمبر 2001 على رأس أكثر من 3000 بريء. وقال المعلق، على لسان القس الألماني(Martin Niemller)، إنه لم يحرك ساكنا عندما أنهى النازيون في وطنه زعماء اتحادات العمال، وسكت عندما قضوا على الشيوعيين، فهو لم يكن شيوعيا، وعندما بدأوا بتصفية اليهود لم يكترث، وعندما جاءوا له لم يكن هناك أحد ليقف معه! ومن هذا المنطلق فإنه، أي كيث أولبرمان، يشعر بأن عليه اليوم أن يقف ويتكلم في موضوع المسجد، من دون مقارنة طبعا بين وضع اليهود حينها ووضع مسلمي أميركا اليوم، وليقول إن هذه القضية أخذت أبعادا خطرة وشابتها مبالغة وشحن لمشاعر الرأي العام ضد فكرة بناء المسجد على أرض مركز التجارة الدولي، لما يمثله من تحد واحتقار لذكرى أرواح آلاف الأبرياء الذين قضوا في ذلك الموقع، وأن المسجد سيستخدم لتدريب الإرهابيين! ولكن الحقيقة أنه لا يوجد مسجد في مركز التجارة «كرواند زيو» ولا مركز للإرهاب، فما هو مخطط لبنائه يقع في 45 بارك بليس، وهو مركز مكون من 13 طابقا يحتوي على ملاعب ومدارس ومكتبة وفي طوابقه الأخيرة مكان للعبادة، ويبعد أربعة أو خمسة «بلوكات» عن موقع مركز التجارة ولا يشاهد منه، ويجب ألا يثير وجوده حفيظة أحد. وقال إن في منهاتن مساجد يعود تاريخها لما قبل تاريخ بناء برجي التجارة، وأن أميركا، منذ تأسست، وهي تحارب من أجل حق الجميع في ممارسة الاعتقاد، وأن هؤلاء المعترضين انفسهم سبق ان اعترضوا قبل 50 عاما على انتخاب رئيس كاثوليكي للبلاد، وأن رفض بناء المسجد سيعني في النهاية أن من اعتدوا علينا في الحادي عشر من سبتمبر قد حققوا أهدافهم.
وفي جانب آخر ألقى عمدة نيويورك، الملياردير اليهودي مايكل بلومبرغ، في 8/29 خطبة مؤثرة، وبحضور رجال دين يهود ومسيحيين، أعرب فيها عن تأييده الواضح لفكرة بناء مركز إسلامي في المدينة. وقال إن ذلك امتحان لمثل الشعب الأميركي ولمبدأ فصل الدولة عن الكنيسة وحق المواطنين في التصرف بممتلكاتهم بالطريقة التي تناسبهم. وبما أن أرض المسجد المزعوم، والأصح المركز الإسلامي، ملكية خاصة، فإن الحكومة لا تستطيع إنكار حق الملاك في التصرف بأرضهم. ولو قام معارضو بناء المركز برفع الأمر للقضاء فإن المحكمة، في الغالب، سترفض دعواهم لمخالفتها دستور الولايات المتحدة.
وقال إننا قد لا نتفق مع جيراننا في المبنى نفسه ولكننا نتقبل اختلافاتنا ويتحمل بعضنا بعضا، وهذه الروحية والانفتاح والقبول للآخر هي التي حاول المعتدون على برجي التجارة تحطيمها والقضاء عليها. فأميركا تأسست على مبدأ أن الحكومة يجب ألا تختار بين العقائد الدينية أو أن تميز إحداها ضد الأخرى، وسنكون غير صادقين مع أنفسنا وأخلاقياتنا ومبادئنا إن رفضنا بناء المسجد في منهاتن. كما أن رضوخنا لمطالب المعارضين سيسعد كثيرا متطرفي الطرف الآخر. وقال إنه في يوم 9/11 اندفع الآلاف لداخل حطام وركام المبنيين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون أن يسألوا من الذين قاموا بإنقاذهم، وأي رب يعبدون ولأي ديانة ينتمون، وأن 400 من أولئك الرجال لم يعودوا في ذلك اليوم لأهاليهم! وقال إن الخلافات والمواضيع المثيرة للجدل تأتي وتذهب، ولكن قيمنا وتقاليدنا يجب أن تبقى.
أحمد الصراف