لم أشهد، طيلة العقود الأربعة من حياتي على الأقل، تشييع جنازة عالم من علماء الأمة الإسلامية يجتمع فيها الأضداد، وتتوحد فيها كل الطوائف، وترسل فيها الوفود، وتنطلق التصريحات بالمناقب والحسرات في آن واحد، من الملوك والرؤساء والسياسيين من مختلف أصقاع العالم، ومن مذاهب ومدارس وتيارات ومشارب مختلفة، كما هو الحال مع تشييع جنازة آية الله السيد محمد حسين فضل الله، قدس الله سره الشريف… في دلالة على (عالمية) عالم مسلم قل نظيره… أنار (الأمة) الإسلامية ومضى.
ولم أشعر باشتراك الكثير من المواطنين… من الطائفتين الكريمتين في الحزن على عالم كبير، كما شعرت به حال ورود نبأ وفاة (السيد)، في دلالة على أن الراحل الكبير كان محبوباً بين الشريحة الأكبر من الناس لما عرف عنه من غزارة علم واجتهاد وجهاد وانفتاح واعتدال وعمل صادق لوحدة هذه الأمة والتصدي للأفكار الفتنوية التي تشق عصا الأمة، ذلك أن السواد الأعظم من أبناء الأمة، وخصوصاً من نخبة المثقفين والمعتدلين، وجدوا في شخصية السيد قدس سره الشريف، نموذجاً فريداً للعالم العامل الإنسان الكريم المحب لكل الناس، في زمن رفعت فيه بضع عمائم رديئة وزمرة من لحى طويلة مخزية سيوف الاحتراب والاقتتال والتناحر الطائفي البغيض، ليغتالوا الحياة الجميلة والحب الإنساني والصفاء النقي بين أبناء المسلمين، بأفكارهم الهدامة المجرمة.
هو (فضل من الله) أنار الأمة ومضى، تاركاً منهجاً أصيلاً وفكراً إسلامياً حراً نبيلاً متفتحاً معطاءً، لن تضيف إلى مسيرته أو تنقص منها، إن كتبت الصحف أو لم تكتب… نقلت الفضائيات نبأ وفاته أو تشييعه أو لم تنقل… ذلك الفقيد العظيم، قدم نموذجاً للعالم الإسلامي الرباني الذي لم ترهقه النوازل والافتراءات، ولم تضعف إرادته في البناء والوحدة والدفاع عن قضايا الأمة، ولم يغفل لحظة عن القيام بدوره الإنساني، فخلال ثلاثين عاماً، تمكن الراحل الكبير من تأسيس مشاريع تشهد بعظم عطائه… ويكفي أن نشير إلى أنه أسس 9 مبرات خيرية، و19 مؤسسة تعليمية، و4 معاهد مهنية، وداراً للعجزة ومؤسسة للمعوقين علاوة على مشاريع إنشاء المساجد والحسينيات.
حين توقف موكب التشييع قليلاً في محلة «الساندريلا»، أعادت تلك اللحظات إلى الأذهان محاولة الاغتيال الشهيرة التي تعرض لها الراحل الكبير في الثامن من شهر مارس/ آذار من العام 1985 في ذات المحلة بواسطة سيارة ملغومة أفضت إلى مقتل 85 شخصاً والعديد من الجرحى على أيدي الصهاينة وعملائهم، ليواصل بعدها مشواراً من العطاء النادر في حجم منارة لا يمكن أن تعوض.
رحل السيد فضل الله عن هذه الدنيا تاركاً كنزاً من الفتاوى والآراء والمقارنات التي اتسمت بالاعتدال والشفافية والروح الوطنية، فكان – حسب وصف شيخ الأزهر أحمد محمد الطيب – العالم الثقة، العامل بكتاب الله وسنة رسوله… الراسخ في حبه لآل البيت… المنزه عن التعصب لرأي أو مذهب… المدافع عن وحدة الأمة وعن ثوابتها… الذي جمع بين الصلابة في مواجهة الأعداء وبين السماحة والدعوة إلى التآخي بين الناس جميعاً على اختلاف أديانهم وأعراقهم.
سيدي يعز على المحب أن يرثي من يحب… تغمدك الله بواسع رحمته وأسكنك فسيح جناته.