محمد الوشيحي

العجلات خلفية والدفع أمامي


العلم بحر. راقت لي سيارة مرت أمامي في الشارع فقررت أن أشتري شقيقتها، بحيث تكون أكبر منها سناً، وأقدم منها في معترك الحياة، وبشرط أن تكون رخيصة غير بخيصة. فنهاني الأصدقاء عنها. ليش؟ لأنها تسير بنظام "الدفع الأمامي". ولأنني أسمع عن هذا النظام البائد ولا أعرفه عن قرب، سألت: "ما الفرق؟"، فأجابوا: "الدفع الرباعي يعني أن ما يدفع السيارة للتحرك هو العجلات الأربع، وهو ما يعطيها قوة أكبر، ويحافظ عليها، أما الدفع الأمامي فيعني أن ما يدفع السيارة هو العجلتان الأماميتان فقط، وتتبعهما الخلفيتان على غير هدى، فالخلفيتان مثل زوج الست"، قلت: "يعني بالمصطلح السياسي نستطيع أن نقول عن نواب الحكومة إنهم عجلات خلفية والدفع أمامي؟"، قالوا: "فتح الله عليك يا مولانا"، قلت: "لنبحث إذاً عن نظام أخو شمة، نظام الدفع الرباعي كحال سيارتي السابقة، وكما قال الفارس ابن رشيد (عيبٍ طمان الرأس عقب ارتفاعه)"، فبحثنا وأعيانا البحث، فتهكم أحد الأصدقاء: "نصحناك أن تغيّر قلمك "الجاف" بقلم "سائل" يتشكل بحسب الوعاء الموجود فيه، فتهز النخلة فتساقط عليك رطباً جنياً، فأبيت" يقصد أن أصحاب الأقلام السائلة استفادوا من بعض الشركات والتجار والسياسيين. قلت: "وجه الفقر ما يعرف الغناة"، كما في المثل.


حينها، تذكرت سيرة كليوباترا (أكثر امرأة استهلكت عطوراً على مر التاريخ) حين كانت ترش أشرعة سفنها بالعطور المعبأة في براميل كي تخفف نتانة رائحة البحر، فيتسابق الخدم والحشم لتطويقها، هذا يرفع طرف فستانها، وذاك يقبل حذاءها، وذيّاك أصبح كالمظلة ووقف بينها وبين الشمس، ووو، كل هذا للظفر بما تبقى في البراميل من عطور، ومن يظفر ببرميل يحلّق في فضاء المال والأعمال، إذ إن برميل عطر من عطورات كليوباترا يعادل بلغتنا اليوم مشروع بي أو تي.


مساء اليوم التالي توجهت بمفردي إلى مكتب سيارات آخر، فرحّب بي الموظف بشدة (هذه المرة كان كويتياً لا مصرياً كبائع الأمس) وراح يناقشني في مقالاتي، فاستبشرت خيراً، لكن الأمور التبست عليه، وظن أنني أبحث عن "ما غلا ثمنه" من السيارات، بحكم أنني كاتب، فتركته يهذي ويحدثني عن أنواع "البورش"، وتحمس فاستصحبني، على رأي نجيب محفوظ، لرؤيتها على الطبيعة، وراح يحدثني عن الفروقات بينها، فهذه "بانوراما" وهذه "سنسر" وهذه "نافيغيشن" وهذه "خنصر"، ولم يكن بينها فرق واضح، وكلها بألوان غامقة إلا واحدة كانت بيضاء من غير سوء، وتبسمت بعد أن تذكرت زيارتي لكهف "أهل الكهف" مع أبنائي، عندما توقفت بجانبنا حافلات ملأى بالسياح اليابانيين، فذهل ابني وصرخ بكل ما أوتي من تناحة: "كلهم أخوان؟"، فأشرت إلى السائق: "هذا ليس أخاهم، لو خليت خربت".


وأسهب البائع في الشرح فقاطعته بصوت مبحوح مجروح وأنا أنظر إلى سيارة أعرفها وتعرفني: "شوف لي سيارة كهذه يصل سعرها بعد تقسيطها إلى ستة آلاف دينار، حفظك الله"، فرمقني بنظرة تختلف عن نظرة الاحترام في الشكل والمضمون، فرمقته بمثلها، فرمقني فرمقته، وأنا أبو سلمان، فاستأذن بجلافة واستدعى لي العامل الآسيوي الذي جلب لي قبل قليل فنجان الشاي ليشرح لي مواصفات السيارة…


فخرجت غاضباً، وهاتفت صاحبي: "خلاص، سأكتب بالقلم السائل، وسأهاجم النائب مسلم البراك منذ الصباح الباكر، وسيكون عنوان مقالتي القادمة (غير السّوباح ما نبي)".


***


يبدو أنني سأشوي البصل الإيراني على جفون الكاتب الفضائي، وسيكون للبصل نكهة الكمّون والكاري. بالهناء والشفاء. وقد أبيع التذاكر لكل من أراد الضحك عليه في الجمعيات التعاونية.


***


الحرية لسجين الرأي خالد سند الفضالة.


حسن العيسى

ماذا لو كُتِب لك الخلود؟


أي رطانة رائعة تلك التي كتبها "جون وولش" في جريدة "إندبندنت"، وعنونها "لا تقل الموت… من يريد أن يحيا إلى الأبد"؟ يسأل الكاتب: ماذا لو توصل علم الجينات إلى أن يمد عمرَك لأكثر من مئة عام ولمئات السنين! ماذا لو أتاح لك العلم أن تؤجل موتك إلى ألف عام، كيف ستحيا كل السنوات القادمة الممتدة؟! ينقل الكاتب عن المخرج الأميركي الكبير "ودي ألن" الذي بلغ الخامسة والسبعين من العمر قوله: "لا أريد أن تخلِّدني أعمالي… وإنما لا أريد الموت"، عبارة صادقة تخلو من رياء مدَّعي الحكمة والنقاء الروحي.


تتزايد نسبة المعمِّرين الذين تتجاوز أعمارهم المئة عام بنسبة 7 في المئة كل عام، ويتضاعفون كل عشر سنوات، ولا يهم سبب الزيادة، سواء كان ذلك راجعاً إلى خفض كمية النشويات التي يستهلكونها أم لأسباب روحية، "فجين كالمنت" ماتت عام 1997 عن عمر يناهز المئة والعشرين عاماً، وبعد جيل من الآن سيُحطَّم هذا الرقم القياسي لنصل إلى مئة وخمسين عاماً… ويعود جون وولش ليسأل: هل نستطيع أن نخدع الموت إلى ما لا نهاية؟! فنحن نموت بأي واحد من ثلاثة أسباب، الكهولة أو المرض أو الحوادث… ماذا لو استطاع العلم أن يوقف الشيخوخة بالأدوية المانعة للمرض… وتجنبنا موت الحوادث؟ لو قدر للعلماء أن ينقلوا العقل من الجسد المصاب الجريح إلى جسد آخر سليم! تماماً مثلما تُنقَل المعلومات "سوفت وير" من جهاز كمبيوتر إلى آخر، ستنتقل ذكريات الماضي والوعي بالحاضر وبالتالي كل معنى لحياتك من جسدك المتهالك إلى جسد جديد… وهكذا يتم تخزين "الذاكرة" البشرية ونقلها إلى مئات وآلاف السنين، وتظل حياً خالداً بذكرياتك ووعيك.


ينقلنا وولش إلى رحلات جليفر ولكن ليس إلى بلاد الاقزام، بل إلى بلدٍ الكائنات فيه لا تموت، اسمها "سترلدبرغز"، يغبطها جليفر: يا بختكم لا تعرفون الموت… ولكنه يدرك أن تلك الكائنات الخالدة تتفجر بالحسد والثرثرة والملل، فهي تهرم وتشيخ وتسقط أسنانها، وتفقد ذاكرتها وتنسى بداية الجملة عندما تصل إلى نهايتها… فأي حياة هذه التي تحياها تلك الكائنات! هي تغبط وتحسد مَن يموت…!


ويتساءل وولش مثيراً في نفوسنا حلم العمر الطويل، يسأل عن آلاف الكتب التي سنقرأها وعن كل نقاط الأرض التي يمكن أن نزورها لو امتد بنا العمر مئات السنين… لكن هل ستريد الخلود للأبد؟ وهل ستعي معنى البهجة؟


ماذا يقصد وولش؟ برأيي، إنه لا يريد غير أن يقول لنا، إنه لا توجد بهجة دائمة… وما كنا لنعرف لحظات البهجة والفرح لولا أوقات الحزن والملل، فبضدها تتميز الأشياء… فلولا الليل ما عرفنا النهار، ولولا القبح ما أدركنا الجمال.. ومثلاً، لولا أنني لم أزُر سويسرا ولاس فيغاس لقلت ما أجمل الحياة في بلدي الكويت… إني أغرق في دنيا البهجة وأسبح على شواطئ الحبور.


احمد الصراف

متى يستقيل د. هلال؟

نشر أحد ناخبي النائب دليهي الهاجري إعلان شكر وتأييد «للمواقف المشرفة» للنائب. وتضمن الإعلان، الذي غطى نصف صفحة، أبياتا قد يصعب على البعض معرفة معاني كلماتها، ولكن يقصد بها شكر النائب:
«أبزهم الحلحيل لا صار ما صار
النادر اللي للثقيلات شيال
أبو سعد سعد القبيلة وستار
الطيب نيشانه وتحكى به أجيال
والشكر لله ثم لشبله البار
محمد اللي ترجم القول أفعال»
وهذه الأبيات لم تصغ، وتكلفة الإعلان لم تدفع، لو لم ينجح النائب الدليهي في «صراعه اللفظي» مع وزير الصحة، الدكتور هلال الساير، والبر بقسمه في إرسال ناخبته المريضة لتلقي العلاج في الخارج على حساب الدولة، والدولة هو وهو الدولة!
ولو كنت مكان الدكتور هلال، وهذا ما توقعه الكثير من محبيه منه، لما ترددت في الاستقالة من الوزارة، بعد رفض النائب الدليهي الاعتذار علنا عن الإهانة التي بدرت منه لشخص ومكانة بروفيسور طبيب ووزير يحترم نفسه ويعتز بخبرته ومكانته العلمية، وفوق ذلك رفض رئيس الوزراء الواضح الوقوف معه وتأييد موقفه من رفض معاملة النائب دليهي، والزيادة على ذلك بتعهده، أي رئيس الوزراء، إرسال المريضة للخارج لتلقي العلاج على حسابه الخاص! وهذا يذكرني بالنكتة التي تتعلق بالأب الذي وعد ابنه بسيارة جديدة إن هو اجتاز بنجاح امتحانات الثانوية، وعندما فشل الابن في ذلك وسقط في الاختبار أصابه حزن شديد لدرجة «كسرت خاطر» أمه فقررت شراء سيارة له(!!)،
عزيزي الصديق الدكتور هلال. أعلم أنك ترددت أصلا في قبول المنصب الوزاري. وأعلم أيضا أنك أصلحت في الوزارة وأنجزت ما لم يقم أي وزير صحة سابق بإنجازه. كما أعلم بمدى رضا جميع المخلصين عما قمت بإصلاحه في الوزارة، ولكن لوطنك عليك حق لا يقل عن حقك على نفسك.
فحق وطنك عليك ألاّ تدع ما حصل يمر مرور الكرام ويصبح سابقة. فإن قبلت أنت، بكل ما تمثله من عزة نفس ورفعة مقام وخبرة، في أن يحدث ما حدث فما الذي تركته لغيرك؟
كما أنك تستحق أكثر من ذلك، فلست بحاجة لمال ولا لجاه حتى تبقى تواجه طلبات هذا النائب المخالفة أو مطالب ذلك المتنفذ المتحيزة، والتي تتعارض مع قناعاتك، التي أعرف كم هي صلبة.
أنت أعلم وأدرى مني بحساسية وضعك، وبما تتعرض له من ضغوط، وما يمليه عليك ضميرك، ولكننا نطالبك بالانسحاب، وبالاستقالة، من منطلق محبتنا غير المحددة واحترامنا غير المشروط لشخصك الكريم.
ودمت صديقا.

أحمد الصراف

سعيد محمد سعيد

«فضل» من الله… أنار «الأمة»ومضى!

 

لم أشهد، طيلة العقود الأربعة من حياتي على الأقل، تشييع جنازة عالم من علماء الأمة الإسلامية يجتمع فيها الأضداد، وتتوحد فيها كل الطوائف، وترسل فيها الوفود، وتنطلق التصريحات بالمناقب والحسرات في آن واحد، من الملوك والرؤساء والسياسيين من مختلف أصقاع العالم، ومن مذاهب ومدارس وتيارات ومشارب مختلفة، كما هو الحال مع تشييع جنازة آية الله السيد محمد حسين فضل الله، قدس الله سره الشريف… في دلالة على (عالمية) عالم مسلم قل نظيره… أنار (الأمة) الإسلامية ومضى.

ولم أشعر باشتراك الكثير من المواطنين… من الطائفتين الكريمتين في الحزن على عالم كبير، كما شعرت به حال ورود نبأ وفاة (السيد)، في دلالة على أن الراحل الكبير كان محبوباً بين الشريحة الأكبر من الناس لما عرف عنه من غزارة علم واجتهاد وجهاد وانفتاح واعتدال وعمل صادق لوحدة هذه الأمة والتصدي للأفكار الفتنوية التي تشق عصا الأمة، ذلك أن السواد الأعظم من أبناء الأمة، وخصوصاً من نخبة المثقفين والمعتدلين، وجدوا في شخصية السيد قدس سره الشريف، نموذجاً فريداً للعالم العامل الإنسان الكريم المحب لكل الناس، في زمن رفعت فيه بضع عمائم رديئة وزمرة من لحى طويلة مخزية سيوف الاحتراب والاقتتال والتناحر الطائفي البغيض، ليغتالوا الحياة الجميلة والحب الإنساني والصفاء النقي بين أبناء المسلمين، بأفكارهم الهدامة المجرمة.

هو (فضل من الله) أنار الأمة ومضى، تاركاً منهجاً أصيلاً وفكراً إسلامياً حراً نبيلاً متفتحاً معطاءً، لن تضيف إلى مسيرته أو تنقص منها، إن كتبت الصحف أو لم تكتب… نقلت الفضائيات نبأ وفاته أو تشييعه أو لم تنقل… ذلك الفقيد العظيم، قدم نموذجاً للعالم الإسلامي الرباني الذي لم ترهقه النوازل والافتراءات، ولم تضعف إرادته في البناء والوحدة والدفاع عن قضايا الأمة، ولم يغفل لحظة عن القيام بدوره الإنساني، فخلال ثلاثين عاماً، تمكن الراحل الكبير من تأسيس مشاريع تشهد بعظم عطائه… ويكفي أن نشير إلى أنه أسس 9 مبرات خيرية، و19 مؤسسة تعليمية، و4 معاهد مهنية، وداراً للعجزة ومؤسسة للمعوقين علاوة على مشاريع إنشاء المساجد والحسينيات.

حين توقف موكب التشييع قليلاً في محلة «الساندريلا»، أعادت تلك اللحظات إلى الأذهان محاولة الاغتيال الشهيرة التي تعرض لها الراحل الكبير في الثامن من شهر مارس/ آذار من العام 1985 في ذات المحلة بواسطة سيارة ملغومة أفضت إلى مقتل 85 شخصاً والعديد من الجرحى على أيدي الصهاينة وعملائهم، ليواصل بعدها مشواراً من العطاء النادر في حجم منارة لا يمكن أن تعوض.

رحل السيد فضل الله عن هذه الدنيا تاركاً كنزاً من الفتاوى والآراء والمقارنات التي اتسمت بالاعتدال والشفافية والروح الوطنية، فكان – حسب وصف شيخ الأزهر أحمد محمد الطيب – العالم الثقة، العامل بكتاب الله وسنة رسوله… الراسخ في حبه لآل البيت… المنزه عن التعصب لرأي أو مذهب… المدافع عن وحدة الأمة وعن ثوابتها… الذي جمع بين الصلابة في مواجهة الأعداء وبين السماحة والدعوة إلى التآخي بين الناس جميعاً على اختلاف أديانهم وأعراقهم.

سيدي يعز على المحب أن يرثي من يحب… تغمدك الله بواسع رحمته وأسكنك فسيح جناته.