كانت تباشير صيف عام 1974 قد بدأت بالظهور على مدينة بنغلور، وبدأت الحرارة بالارتفاع، وكنت وقتها الفتاة الوحيدة في السنة النهائية في كلية الهندسة بجامعة الهند للعلوم والتكنولوجيا، وكنت أحلم بذلك اليوم الذي أغادر فيه إلى أميركا لإكمال دراستي هناك بعد حصولي على منحة دراسية من واحدة من أحسن جامعاتها، وربما سأبقى هناك. ولم أكن وقتها أفكر في العمل في الهند. وفي يوم ما وأنا في طريقي الى سكن الطالبات، لفت نظري إعلانٌ يطلب مهندسين للعمل في مصانع «تلكو»، التي تعرف اليوم بـ«مصانع تاتا»، وقرأت في الإعلان أن الطلب مقتصر على الذكور فقط! ساءني ذلك كثيرا، فقد كانت تلك تجربتي الأولى مع التفرقة حسب الجنس! وبالرغم من عدم رغبتي في الحصول على الوظيفة، بسبب تطلعاتي الطموحة الأخرى، فإن الأمر أثار لدي رغبةً في التحدي، فكتبت، فور وصولي الى النزل، رسالة غاضبة إلى الشركة للاحتجاج على غياب العدالة في المعاملة، خصوصاً أنني كنت أفضل، أكاديميا، من جميع الطلبة الذكور في الكلية. وعندما انتهيت من كتابة الرسالة أخذت أفكر في من أرسلها إليه، فلم أكن أعرف من يدير تلك الشركة العملاقة، ولكني تذكرت أنني رأيت صورة «جي.آر.دي.تاتا» في مجلة محلية، وهكذا عنونت رسالتي له شخصيا. وما أزال، بعد ثلاثين عاما، أتذكر كل كلمة كتبتها، حيث قلت: إن عائلة «تاتا» كانت دائمة رائدة في الكثير من المجالات، فهم الذين خلقوا بنى الصناعة الأساسية في الهند كالحديد والصلب والنسيج والمركبات والمحركات. كما اهتموا بالتعليم العالي منذ عام 1900، وكانوا وراء تأسيس المعهد الهندي للعلوم، حيث أدرس. ولكني أشعر بالألم لأن شركة مثل «تلكو» تعامل الآخرين حسب جنسهم!
أرسلت الرسالة غير عابئة بالنتائج، وخلال عشرة أيام جاءني الرد برقيا، مع طلب سفري الى مقر الشركة للمثول أمام لجنة اختبار. وورد في البرقية أن جميع مصاريف التنقل والإقامة ستتحملها الشركة. لم يكن هناك شيء أخسره إن قبلت العرض، فضلا عن أن أسعار الساري في المدينة التي كنت سأسافر اليها رخيصة جدا.
في يوم المقابلة كان بانتظاري ستة رجال متجهمي الوجه، وشعرت بأن فرصة حصولي على الوظيفة ضئيلة عند سماعي أحدهم يقول لزميله، هذه هي الفتاة التي بعثت برسالة إلى السيد تاتا! وزاد يأسي عندما خاطبني رئيس اللجنة بالقول إن ذلك الإعلان كان لطلب مهندسين للعمل في ورش المركبات، وهو مكان لا يصلح للفتيات. ولكني حاججتهم بالقول ان عليهم إفساح المجال للمرأة لكي تعمل في أي مكان. بعد جدال قصير والإجابة على كل أسئلتهم حصلت على الوظيفة التي كانت حتى وقتها مقتصرة على الرجال، وكان التحدي كبيرا، وهكذا قبلت وعملت في تاتا، بعيدا عن موطني، وهذا ما لم أكن أتخيله، وتعرفت هناك بعد فترة على فتى خجول سرعان ما أصبح زوجي.
بعد أيام من عملي في الشركة علمت بأن «جي.آر.دي.تاتا» كان ملك الصناعة الهندية غير المتوج، وكنت فتاة صغيرة فقيرة وجاهلة من قرية لا يمكن رؤيتها على الخريطة لصغرها. ولم يكن تاتا رئيس الشركة، بل رئيس المجموعة بكاملها، وهذا أدخل الرعب الى قلبي الصغير خوفا من أن ألتقي به يوما فيعنّفني. وزادت الاحتمالات في ملاقاته بعد أن نقلت للعمل في المقر في «مومباي»، وتحققت مخاوفي، فسرعان ما التقيت به في مكتب مديري، وشعرت بالخوف وأنا أتذكر كلمات رسالتي إليه، وكدت أنهار عندما قدموني اليه بالقول انني أول امرأة تعمل في ورش الهندسة في «تلكو» مهندسةً! فنظر إليّ السيد «تاتا» مليّا، وكنت ساعتها أصلي لكي لا يكون قد تذكر اسمي أو الرسالة، ولكنه قال: من الجيد أن الفتيات أصبحن يعملن في ورش الهندسة في مصانعنا، ما هو اسمك؟ وعندما ذكرته له ابتسم وهز رأسه وانشغل بالحديث مع مديري. وكانت فرصة للهرب من الغرفة. بعدها بأسابيع كنت أقف خارج المكاتب ليلا بانتظار زوجي، وفجأة رأيت السيد «تاتا» يقف بجانبي فانتابني الخوف منه ثانية، ولكنه بادرني بالسؤال بحنان عن سبب وقوفي هناك ووقت العمل قد انتهى. فقلت له السبب، فقال لقد أظلمت الدنيا وليس هنا أحد، سأقف معك إلى أن يأتي زوجك. ولكن ذلك جعلني أشعر أكثر بعدم الارتياح، فقد كنت معتادة انتظار زوجي في ذلك المكان، ومن طرف عيني نظرت اليه فرأيت رجلا يرتدي بنطالا وقميصا أبيضين، ولم تكن تبدو عليه أي مظاهر أبهة أو ثراء كبير. وقلت في نفسي: ها هنا رجل تنظر اليه الهند بأكملها بإجلال واحترام، ومع هذا لم يتردد في الوقوف مع فتاة هندية فقيرة وعادية إلى أن يأتي زوجها..يا له من شخص عظيم.
في عام 1982 استقلت من «تلكو» للبدء بمشروعي الخاص. واليوم، بعد ربع قرن، تبلغ نسبة الإناث في كليات الهندسة في الهند 50%. كما أن العديد من ورش الصناعة في الهند تعمل بها مئات آلاف السيدات، وربما كنت الأولى بينهن، وكل الفضل يعود لرسالة قصيرة من فتاة فقيرة لرجل كبير عرف كيف يعطي مجتمعه بقدر ما أعطاه.
الخلاصة: لكي يكون لنا يوما الحظ والنصيب في أن تكون لدينا القدرة على تحرير ما احتُلّ من بلادنا، والتحرر من تخلفنا، فإن علينا الاقتداء بشخصيات من أمثال الهندي «جي.آر.دي.تاتا»!! فبغير التحصيل العلمي ومساواة المرأة بالرجل وفتح المجال لها في كل ميدان وعمل، لا يمكن أن ننهض، وهذه حقيقة عرفها كل مصلحي العصر الحديث وقادته المستنيرين!! ولكن متخلفينا قالوا ان مكان المرأة هو البيت، وإن تخرج فإلى بيت الزوجية، إن تزوجت، أو الى القبر!!
أحمد الصراف