ولولا وسائل الإعلام لبطش بعض حكام الدول بشعوبهم بطشا يحبه قلبك… وكان ديكتاتور زيمبابوي روبرت موغابي يحتفظ داخل أسوار قصره الشاسع بمبنى البنك المركزي، وبسبب مقالة لمراسل أجنبي، كتبها وهرب، تم بناء سور يفصل القصر عن البنك. صحيح أن شيئا لم يتغير في الواقع، إلا أن الأكيد أن موغابي الذي لا يستحي من شيء استحى بعد تلك المقالة أو خاف. وإذا كان خبراء الاقتصاد يحذرون من خطورة معدلات التضخم المرتفعة في دول مجلس التعاون الخليجي والتي بلغت سبعة في المئة، ففي زيمبابوي بلغ التضخم أربعة ملايين في المئة بفضل الأستاذ روبرت موغابي الذي يمتلك أكثر من أربعين قصرا خياليا ويحكم شعبا هو الأشد جوعا في العالم. ولم يستح موغابي أو يخف من أي شيء سوى من مقالة صغيرة نشرت من وراء البحار.
ولولا الصحافة لأصبح الناس ملطشة للمشاهير وذوي النفوذ. وكانت سيدة الغناء العربي أم كلثوم تحظى بمكانة في مصر لا يحظى بها الوزراء الذين كانوا يخشونها، إنْ على وقت الملك فاروق أو عبد الناصر أو «أبو الأناور» أنور السادات كما كانت تسميه فتثير حنق زوجته جيهان! المهم أن شعبية أم كلثوم الجارفة جعلتها تمشي في الأرض مشية الملوك وتتصرف كما الطغاة، وكان أن ذهب حارس إحدى البنايات في الزمالك، وهو من بلاد النوبة (جنوب مصر) ليشتري بعض الحاجيات التي كلفه بها أحد السكان، فسلكَ الحارس الشارع الذي تسكنه «الست»، فانطلق عليه أحد كلاب حراستها ونهش فخذه فدافع الرجل عن نفسه وضرب الكلب برجله وبطوبة وجدها في الشارع فأدمى الكلب، وقيل بل فقأ عينه، وهرب الحارس وهو يعرج وينزف ويتلفت خلفه خوفا من مطاردة بقية الكلاب له، ووصل إلى غرفته وباشر بتضميد نفسه وهو يتشهد ويلهث، لكن فرقة من الداخلية وبتكليف من وزير الداخلية نفسه بناء على اتصال من مكتب «الست»، لم تترك صاحبنا «اسماعين» يستكمل تضميد جراحه، واقتادته بالركل والضرب والبصق والشتم إلى أحد الزنازين الانفرادية ليقبع هناك من دون علاج ولا تهمة، سوى دفاعه عن نفسه ضد هجوم أحد كلاب حراسة الست… ولولا أن أحد الضباط الصغار أنّبه ضميره ففضفض لشقيقه الذي نقل الرواية بدوره لصاحبه الصحافي، لبقي صاحبنا «اسماعين» في زنزانته الانفرادية إلى ما بعد وفاة عبد الناصر… فقد كتب الصحافي مقالة حول الموضوع لكنها منعت من النشر، «كلّه إلا الست، انتا عاوز تودينا فداهية؟»، فراح يوزع مقالته في المقاهي والأماكن المزدحمة إلى أن قُبض عليه «متلبسا» بالشهامة… وهنا سأل أحد الصحافيين الست الحنونة الرحيمة أم كلثوم عن حال اسماعين والصحافي المسجونين بسبب كلبها، فوضعت أصابعها على فمها لهول الصدمة، وقالت بتأثر: «وحياة ربنا أنا كنت فاكراه (تقصد اسماعين) واحد صايع من ولاد الشوارع ضرب الكلب وهرب، فقلت ليهم (موظفو مكتبها) كلموا وزير الداخلية علشان يؤدبه، ومكنتش عارفة إنو اترمى في سجن انفرادي، يا حرام، لأه مش ممكن»… وتم اطلاق سراح صاحبنا اسماعين ونقل إلى المستشفى بجروحه الملتهبة، وخرج الصحافي من السجن وهو في حالة يَرثي لها الرثاء، ومُنعت الصحافة من التطرق للموضوع، حتى لا تتأثر الثورة.
ولولا حرية الصحافة الكويتية وسطوتها، لما تراجع ذلك المسؤول الكبير عن ظلمه لموظفيه الذي لم يوقفه سوى تهديد موظفة شريفة باللجوء إلى الصحافة… وفعلا «ناس تخاف ما تختشيش».