في مثل هذه الأيام منذ 50 عاما قام انقلاب دموي في العراق ودخل النقيب عبدالستار العبوسي الى قصر الرحاب ليطلق النار عشوائيا على الاسرة المالكة وهي تحمل المصاحف على رأسها، ويقول صديقه العقيد عدنان نوري ان العبوسي اشتكى له بعد ذلك انه لم يهدأ قط في فراشه منذ اغتيال الملك الشاب فيصل الثاني وانه كان يأتيه في منامه ويحاسبه على مظلمته وسبب قتله وأهله، ويضيف عدنان ان العبوسي وصل لحالة نفسية متردية حتى انه كان يهنئ اهل من يموت بدلا من تعزيتهم معتبرا ان في الموت راحة حتى انتهى الامر به للانتحار في فبراير 1970.
ليس هناك اكثر خطأ ممن يترحم على الحجاج عند ولده، اي يثني على الزعيم الدموي عبدالكريم جاسم محمد البكر الشهير بـ «عبدالكريم قاسم» كونه فقط اقل دموية من خليفتيه احمد البكر وصدام حسين، لقد كان قاسم ظالما قامعا للحريات وكارها للتيار العروبي في العراق بسبب قتل هؤلاء لابن عمته ومثله الاعلى الفريق محمد جواد قائد سلاح الطيران وصديق الانقلابي بكر صدقي الذي اغتيل ردا على اغتيال الاخير لوزير الدفاع جعفر العسكري صهر نوري السعيد.
وفي ديسمبر 1962 جرت «خناقة» في احدى الثانويات ببغداد بين ابن فاضل المهداوي واحد الطلبة القوميين فتمت معاقبة الاخير وسُكت عن الاول، فاستغلها القوميون فرصة للاضراب الشامل وشاركتهم نقابات واتحادات اخرى مما شل البلد وأخر في الوقت ذاته احالة كثير من الضباط القوميين للتقاعد وهو ما عجل بفكرة الانقلاب على عبدالكريم قاسم وجرى تسابق بين البعثيين والقوميين من جهة والناصريين بقيادة صبحي عبدالحميد من جهة اخرى، والذي كان ينتوي اغتيال الزعيم ابان وقوفه على المنصة اثناء الاحتفال بعيد الجيش العراقي، اي بنفس الطريقة التي اغتيل بها فيما بعد الرئيس السادات.
كان قاسم قد ذكر في لقاء صحافي انه تعرض لـ 34 محاولة انقلاب واغتيال فاشلة، وعلم بالخبرة ان الانقلابات العسكرية لا تتم الا ليلا لذا اشتهر عنه انه «الزعيم الذي لا ينام» حيث لا يخلد للنوم الا الساعة 8 صباحا، لذا قرر الانقلابيون العمل بمقترح العقيد عبدالكريم نصرت صاحب ابتكار واختراع «الانقلاب النهاري» الذي حدد له صباح يوم الجمعة 14 رمضان (8/2/1963)، وما ان تواترت الأنباء عن الحركة الانقلابية – وكما يروي مرافق الزعيم قاسم الجنابي – حتى انهى عبدالكريم قاسم «ريوقه» مسرعا (خوش صيام) واتجه لمباني وزارة الدفاع التي تضم مجلس الشعب ومحكمة الشعب ومسرحا وثكنات عسكرية ومسجدا.
كان افراد الحزب الشيوعي قد أحاطوا الخميس بوزارة الدفاع للدفاع عنها وهم يحملون الحبال ويهددون الانقلابيين بالسحل ويرددون «ماكو انقلاب يتم والحبال موجودة» و«ماكو زعيم الا كريم» وخطب فيهم قاسم قائلا «سنسحق الانقلاب في ساعة» وقد استمع الزعيم لنصيحة قاتلة من صديقه الشيوعي طه الشيخ احمد الذي أقنعه بأن الأهالي كفيلون بسحق الانقلاب دون الحاجة للجيش (غير الشيوعي)، وعند الظهيرة خطب إمام مسجد الامام الأعظم في الاعظمية بالمصلين طالبا منهم دعم الانقلاب فتوجه الآلاف منهم لمحيط وزارة الدفاع وطردوا الشيوعيين وهم يرددون شعار «الله أكبر»، وتغير الموقف واتصل قاسم متأخرا باللواء التاسع مشاة التابع له فرد عليه النقيب طه الشكرجي قائلا: «كرومي، انجب اليوم ذبحتك».
وصل الطيارون فهد السعدون ومنذر الونداوي وواثق رمضان للقاعدة الجوية في الحبانية ولم يكونوا يعرفون كيفية تحميل الطائرات الثلاث بالعتاد فالتقاهم مصادفة العريف «زينو» وهو من اهالي الموصل وقد سحل الشيوعيون اخوانه عام 59، فجعله غضبه وحنقه يتكفل وحده بتزويد الطائرات الثلاث بالصواريخ والرشاشات وبدأت الطائرات بقصف وزارة الدفاع وقصف القواعد الجوية الاخرى التي يسيطر عليها الشيوعيون بعد قتل جلال الاوقاتي قائد سلاح الجو، وقامت المذيعة السيدة هناء العمري بدور جبار في استغلال الإذاعة لدعم الحركة الانقلابية ومنع اذاعة البيانات القادمة من وزارة الدفاع.
في يوم السبت 9/2/63 استسلم قاسم والمهداوي وطه الشيخ احمد وقاسم الجنابي ونقلوا لمباني الاذاعة حيث ضُرب المهداوي ضربا مبرحا منذ لحظة نزوله وسال الدم كالنافورة من رأسه وعندما طلب الرحمة قيل له اطلبها من الطبقجلي ورفاقه الذين اعدمتهم في ساحة ام الطبول، وحاول ان يلقي بكامل المسؤولية على قاسم قائلا: «انا مالي دعوة كل الصوج من هذا» وهو القائل إبان محاكماته الشهيرة: «انا بسمة من بسمات قاسم، انا نسمة من نسمات قاسم»، وقد صدر حكم سريع بإعدام الجميع وقد نُفذ الحكم على كراسي الموسيقيين، وسحب علي صالح السعدي قاسم الجنابي بعيدا عن الاعدام واعطاه صحن تشريب قائلا له «خطيه اكيد مو متريق» وكان الوقت مازال ظهرا في منتصف رمضان.
آخر محطة:
يقول الشاعر الشيوعي محمد مهدي الجواهري مادحا عمليات القتل والسحل آنذاك:
شعب تفنن في انتزاع حقوقه بحبالـه مـن رأس كـل مغـامر وإذا الحـبال تمكنت مـن ثـائر طرحته وانتقلت «لصيد» آخر
شاعرية ورقة شعراء بلاد الرافدين.. غير شكل!