فضول غريب يدفعني للسفر إلى أميركا اللاتينية. دولة تشيلي تحديدا. لماذا؟ لأنها بعيدة عن أعين المعارف! أمر غريب، أو بالأحرى أمري أنا هو الغريب، ففي الكويت أعشق الأماكن المزدحمة، وفي السفر أعشق المناطق النائية، أو على أسوأ الأحوال، البعيدة عن أعين المعارف. وإن كنت أحيانا أجامل الأصدقاء بالذهاب إلى أماكن تجمعات الخليجيين.
وحدها المسافة البعيدة من يقف دون إشباع فضولي بزيارة تشيلي… يا الله، أكثر من عشرين ساعة أقضيها في الجو وفي مساحة محدودة؟ لا يمكن. حتى ولو حملتُ معي روايات «رشيد الضعيف» كلها، بل ولو جلس رشيد الضعيف بنفسه بجانبي يقص عليّ قصصه، ويفتح الزرار الأعلى في قميصي إذا ما استسلمت عيناي لغزو النعاس. (تسحرني روايات هذا الأديب اللبناني، وإن كان إباحيا بصورة سافرة، كأن يسمّي الأرداف باسمها السوقي، كما في مفردات العتّالين، ويسمّي ممارسة الحب باسمها المعروف عربيا وبصورة فجة. لكنه يبقى جميلا هذا المجنون. رواياته كأنها كتبت خصيصا للمسافرين، بعكس روايات الكاتبة السورية هيفاء بيطار المساعدة على النوم! هكذا أراها، رواياتها حقنة تخدير مركزة. ولذا لا أضع كتبها في مكتبتي وإنما على «الكومودينو» القريبة من رأسي. وأشعر بأنني لا أقرأ رواياتها بل أتناولها مع كأس ماء معتدل البرودة).
عشرون ساعة على كرسي في مساحة ضيقة؟ مستحيل، بل سيد المستحيلات… في السابق لم أكن أعاني، كنت أنام قبل إقلاع الطائرة. هكذا، أجلس على كرسيي وأربط حزام الأمان، وقبل أن يكتمل الركاب أكون قد أنهيت الطبق الأول من النوم، ولا تقلع الطائرة إلا وقد بدأت مسيرتي المظفرة في النوم العميق، سحبة واحدة لا تنتهي إلا بعد مجهود جبار تبذله مضيفة الطيران وهي تخبرني بأننا وصلنا… استيقظت مرة أثناء الطيران، فخاطبني الجالس بجواري، وهو سعودي الجنسية، كرشه تقاس بالميل البحري: يا بختك؟/ على ماذا؟ سألته/ فأجاب وهو يتنهد تنهيدة الحاسد: على النوم الهادئ الهانئ، وأضاف متسائلا بدهشة: ألا تخشى سقوط الطائرة؟ فقلت: «إذا شعرتم بأنها ستسقط أيقظوني، أحتاج فقط إلى ست دقائق أجري فيها بعض التمارين السويدية قبل رفع الطائرة على زندي الأيسر وإنقاذكم! وما الذي بيدي لأفعله إن كانت الطائرة ستسقط يا بطل الوثب العالي؟»، قلت له ذلك وتركته يتمتم ويوبخ نفسه على فتح باب الحديث مع «مجنون»، وعدت لاستكمال المهمة، النوم.
أيامي تلك ولّت أدبارها. أطلالها فقط هي الباقية… الآن، لا يغمض جفني في الطائرة قبل أن تركع الكاتبة هيفاء بيطار عند أقدامي وتستجديني، وهي من كانت صفحة واحدة من أحد كتبها كفيلة بسحب أجفاني إلى الأسفل، وكأن الجاذبية الأرضية عمتها التوأم.
عن تشيلي قرأت الكثير، فعشقتها عن بعد… عشقت اختلافها عنا، فموسم الصيف عندنا يكون شتاء هناك، والشتاء عندنا صيف هناك، عشقت منتجع «فيل ديلفار» الشهير دون أن أراه، عشقت سواحلها الطويلة على المحيط الهادئ… سأزورها حتما إن امتد العمر بي. مشكلتي أن التزاماتي الإعلامية منحتني فقط اجازة في شهر رمضان، ورمضان متعته في الكويت… بالمناسبة، تذكرت أبو الدستور رحمة الله عليه الشيخ عبد الله السالم الذي كان يقضي اجازته طوال شهر رمضان في الهند، وكذلك الكاتب الكبير الأستاذ أحمد الديين هو الآخر يقضي اجازته في الهند، وفي رمضان أيضا.