محمد الوشيحي

«يو بروبليم»

كنت متأرجحا ما بين السابعة عشرة من عمري والثامنة عشرة، عندما ابتعثتُ إلى الاتحاد السوفيتي، جمهورية أوكرانيا، لدراسة الطب (أوقفت دراستي هناك بعد أول كورس والتحقت بالجيش، أي أنني انتقلت من علاج الناس إلى قتلهم. تغيير تخصص ليس إلا)… هناك في الكلية، ولسوء الحظ، بلغني بأن إحدى المعلمات يهودية، فقامت قيامتي ولم تقعد، وقررت أن أدخلها الإسلام، بالتي واللتيا، أو بإحدى هاتين العقوبتين. لاوقت لدي للمزاح (وقتها، لو رأيت الحضر لدعوتهم إلى الإسلام فما بالك باليهود)… يهودية مرة واحدة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
الأمر محسوم، هذه اليهودية يجب أن تدخل الإسلام، لكنني اصطدمت بحاجزين، الأول، هو ثقافتي الدينية التي لا تسعفني، فمطالعتي كانت محصورة في كتب عنترة والزير سالم، وكلاهما مات قبل الإسلام، ووقتي في السابق كان موزعا ما بين التعارك مع الطلبة والتدخين في الساحة الخلفية للبنك. أما الحاجز الثاني فهو أنه لم يمض على وجودي في الاتحاد السوفيتي سوى أسبوع واحد، وهناك لا يتحدثون الانكليزية.
في مكتبها، وقفتُ أمامها وأشعلت ولاعة السجائر وخاطبتها بالتي هي أحسن: «يو بروبليم، يهودي هير مسلم هير»، أي أنكِ في مشكلة، فاختاري إحدى الديانتين، إما أن تكوني يهودية فتدخلي النار (أشرت بأصبعي للولاعة)، أو أن تكوني مسلمة فتدخلي الجنة (أشرت للحديقة الخارجية)… ورغم بساطة شرحي إلا أنها لم تفهمني . غبية.
الغريب أنني لم أدع المسيحيين هناك إلى دخول الإسلام، رغم كثرتهم! هي وحدها فقط من دعوتها إلى الإسلام. لماذا؟ لأنها يهودية. وما الفرق بين اليهودية والمسيحية في عيون المسلمين؟ اسألوا تلفزيون الكويت والصحف وخطباء الجمعة في نهاية الثمانينات.
أكملت حواري معها: «يو قوود يهودي؟ أنيمال نو يهودي؟»، ومعناها، بعد التهذيب: «أأنتِ سعيدة بالديانة اليهودية، حتى الحيوانات ترفض ديانتكم»؟ ولا تسألني عن أسماء الحيوانات التي رفضت اعتناق اليهودية، فقد كنت مضطرا لاستخدام كافة قدراتي الفكرية لاقناعها… كانت الدكتورة ترد بحجج غير مقنعة، لم أفهم شيئا منها، لكنها غير مقنعة بالتأكيد، فهي يهودية وأنا مسلم، فكيف تحاججني الخبيثة سليلة القردة؟… كانت تصرخ في وجهي فأبادلها الصراخ: «مسلم قو ناو»، أي ادخلي الإسلام حالا.
لم تقتنع بنت اليهود بكل ما قلته لها، بل استدعت مدير الكلية الذي بدوره استدعى المترجم، وهو عراقي الجنسية… سألني المترجم عن مشكلتي فأخبرته بأن هذه الشمطاء الحقيرة ديانتها يهودية، لعنة الله عليها، ولذا يجب أن تستغفر ربها وتتوب حالا وتعلن إسلامها، معنا وقت. فوضع يديه فوق رأسه، وخلع نظارته وأعادها إلى وجهه مرات وهو يتمعن في تفاصيلي فاغرا فمه، ثم سألني بأدب: «أنت مسودن»؟ فأجبته: «لا، كويتي». فدخل في نوبة هستيريا ضحك، وقال وهو يمسح دموعه: «يا ابني، أمضيتُ أكثر من عشرين سنة أعمل في الترجمة، ومرت عليّ مشاكل لا تعد ولا تحصى، لكن هذه هي المرة الأولى التي أتعامل فيها مع هذه المشكلة»… ثم أكمل حديثه بجدية مرعبة: «لو فهموا كلامك لقضيت بقية عمرك في السجن، لكنني سأقول لهم بأنك تعاني من ألم في المعدة، وأن الألم تضاعف فأصبحتَ تشعر بنار في معدتك، لأنها تسألني عن قصدك من إشعال الولاعة…».
سبحان الله، دخلتُ مكتبها وأنا داعية للإسلام وخرجت وأنا محملا بأدوية لعلاج المعدة… والآن أفكر جديا في طلب مقابلة سمو الرئيس لإقناعه بأن عليه مراجعة طريقته في إدارة مصالح البلاد والعباد، لكنني أخشى أن أخرج من مكتبه محملا بالبطاطين بعدما يقنعه مستشاروه بأنني أعاني من «الحمى المالطية».

 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *