من مدينة عربية تعتبر الحجاب إشاعة، لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، أو على أحسن الأحوال هو كالغول والعنقاء والخل الوفي… ومن مقهى صغير على جبل يطل على البحر المتوسط، أمعنت النظر باتجاه الشرق، حيث الكويت، البلد الذي رفعته الديموقراطية على كتفيها عاليا، ثم وبحركة سريعة أزاحت كتفيها من تحت قدميه فوقع على الأرض مضرجا بالتناحر والتخلف، وأحدث سقوطه دويا وفجوة كبيرة في الأرض تساقط فيها المارة البسطاء ( لثراء اللغة العربية، استعضت بكلمة «البسطاء» بدلا من «الأغبياء». شكرا لغة الضاد، نردها لك في الأفراح).
هناك، في المقهى، نهضَت من كرسيّها وجاءتني مسرعة … وجهها رخامي حاد التقاطيع، يذكرك بالاتحاد السوفياتي، كل عضو فيه مستقل بذاته، أنفها، عيناها، فمها، خداها، ذقنها، كل عضو في وجهها يرفع علما مختلفا بألوانه عن غيره، يجمعها كلها ذلك الوجه الرخامي في اتحاد كونفيدرالي على وشك التفكك… لوهلة، خشيت أن تنطلق شرارة حرب حدودية في وجهها… بغنج قالت دون أن تحصل على تفويض من المرآة: «لم أشاهدك فى الكويت، فالتقيتك هنا، مصادفة سعيدة». فابتسمت لها وتمتمتُ بصمت: «السعادة ليست لكلينا بالتأكيد». ثم بدأت حديثها الطويل… عن برنامجي الذي قدمته على تلفزيون «الراي» تحدثت، عن نتائج الانتخابات تحدثت، عن كل ما له علاقة في السياسة الكويتية تحدثت، عن توجهها الليبرالي أيضا تحدثت وأسهبت، وكيف أن البلدان لا يمكن أن تنهض بغير الليبرالية… كانت تتحدث وكنت أسرح في خيالي: صوتها لله دره، يرش الملل النقي في أرجاء المكان، امرأة تقدم الملل «على أصوله»، بلا شوائب. يبدو أن ضميرها التجاري حي. هو الحي الوحيد فيها، على أي حال. البقية من الرخام.
لم أنتبه لحديثها إلا بعدما ذكرت اسم سيد حسن القلاف. فقاطعتها: عفوا. فأعادت كلامها: هم يكرهونه بدافع طائفي، وهو ما دفعني لانتخابه، أنا سعيدة جدا بنجاحه الذي عكّر أمزجتهم… أها، إذاً سبب انتخابك له كان لتعكير أمزجة الآخرين؟ سبب وجيه بصراحة.
سألتها: من اخترتِ لتمثيلك في البرلمان إضافة إلى سيد حسين القلاف؟ فعددت لي أسماء ثلاثة كلهم من الشيعة المتدينين (أيضا لثراء اللغة العربية استعضت بكلمة «المتدينين» بدلا من «الطائفيين»، شكرا مرة أخرى)… سألتها أيضا: كأنك قلت لي في بداية حديثك بأنك ليبرالية، فلماذا لم تنتخبي مثلا حسين الحريتي أو عبد الله الرومي أو دكتور عبد المحسن المدعج إذا كنتِ ليبرالية بالفعل؟ أم أن الليبرالية برأيك «تُنطق ولا تُكتب»؟ فأجابتني بهدوء بدّد الملل: صحيح أنني ليبرالية لكنني أخاف الله! ولا يمكن أن أنتخب أحدا ليس من شيعة آل البيت. فاستأذنتها وغادرت المكان وأنا أرفع عينيّ للأعلى: يا رب، إن أنفها، كما ترى، على وشك السقوط فعجّل بسقوطه رحمة بالخشب وبهذا الشعب المغلوب والمقلوب على أمره.
هي ليست امرأة بحسب المقاييس العالمية للنساء، وإنما كائن بعقلية خام ووجه من رخام. من الظلم تصنيفها لنفسها كـ«سيدة أعمال». الأصح أن تقول بأنها «كائن أعمال». اللغة العربية ثرية كما ذكرت.
لهول صدمتي من إجابتها التي كفّرت بطريقة غير مباشرة كلا من الحريتي والرومي والمدعج وسائر أبناء الطائفة السنية، نسيت أن أسألها عن مدى صدقية الخبر الذي تناقله الناس عن قيام المرشح أنور بو خمسين (الذي لم ينجح في الانتخابات) بفصل ثلاثة عشر صحافيا من أنصار النائب صالح عاشور من جريدته التي تمتلكها أسرته، وعن فصل ابنة المرشح خليل الصالح من وظيفتها في البنك الدولي الذي تمتلكه أسرته كذلك… انتقاما لسقوطه! وكما يعرف الجميع، كان عاشور والصالح وبو خمسين في قائمة انتخابية واحدة، فحقق عاشور المركز الأول في حين جاء بو خمسين في المركز الرابع عشر والصالح في المركز السابع عشر والكويت في المركز الأخير.