سامي النصف

المذنبون

تحول الدول والأمم من الأمن إلى الخوف ومن الديموقراطية إلى القمع ومن الحرية إلى كتم الأنفاس ومن الرفاه إلى الجوع والفقر والقتل والتهجير، كما حدث في الماضي في مصر وإيران والعراق وسورية وليبيا وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وافريقيا وغيرها، كانت بدايته المشتركة وشرارته الأولى هي كسر «هيبة الدولة» وتشجيع الجميع على التجرؤ عليها.

وقد لخصت صورة نشرتها إحدى الصحف قبل ايام حقيقة ما حدث أمام المباحث الجنائية وقد كانت الصورة القبيحة تمثل مواطنا شابا يمسك بيده اليسرى، وبصورة مهينة، ملابس احد القيادات الامنية رفيعة المستوى، ويمسك بيده اليمنى عقاله استعدادا للضرب، وكانت الصورة تظهر كذلك انه كان يهدد بالصوت العالي تلك القيادة الكويتية الخلوقة بدلا من العكس، كما يحدث في دول العالم الأخرى المتقدمة منها والمتخلفة.

إن كسر «هيبة الدولة» ممثلة بالنظام والحكومة لم يتم بين ليلة وضحاها كما لا ينسب الفعل فيه لمجهول، بل لجناة و«مذنبين» معروفين، لا يعلم البعض منهم للأسف الشديد تبعات ما يفعلونه، اما لكون الخلافات والمناكفات الشخصية قد أعمت بصائرهم وأبصارهم فأصبحوا من دعاة سياسة الأرض المحروقة ونهج «علي وعلى أعدائي يا رب»، وإما لكونهم لم يقرأوا ولم يتعظوا بتاريخ دول المنطقة.

إن كسر «هيبة الدولة» يتم عبر تجاوز الخطوط الحمراء في خلافات أبناء الأسرة الحاكمة وتخلي بعض قوى المعارضة التقليدية عن الحكمة في القول والفعل في تبايناتها مع الحكومة، والتي لا تستأهل منهم كل ما يقولونه ويفعلونه، اضافة الى ثقافة خاطئة متوارثة في مجلس الامة جعلت بعض النواب يتصرفون بطريقة غير مسؤولة على الاطلاق في سبيل دغدغة مشاعر الناخبين، وحقيقة وجود تنافس اعلامي جعل كل شيء مباحا في سبيل زيادة ارقام التوزيع حتى لو كان ذلك على حساب مصالح البلاد العليا وبقائها.

إن الكويت، للعلم، ليست محصنة ضد الفوضى والخراب وتغيير الأحوال من جنة الأمن والرفاه التي نعيشها الى نار الخلاف والدمار كالتي نشهدها على حدودنا الشمالية، وما لم نلحظ تغييرا جذريا وحقيقيا لدى الاطراف السابقة فلن نستبعد ان يقوم الشباب الصغار الذين هم دائما وابدا الدماء الفائرة والحطب الذي تحرق من خلاله الاوطان بإشعال النيران كي يتدفأ على نار ذلك الحريق المدمر من سيسعد به في البدء وسيحترق به في نهاية المطاف.

أخيرا، ان القوى الاقليمية ترقب وتلحظ وتتابع الأحداث ولا شك في ان افتراق ابناء اي دولة هو المنفذ الذي يسمح بتدخل الآخرين في شؤونها كما حدث مرارا وتكرارا، مستغلين غضب هذا الطرف على ذاك، لذا فالحذار الحذار من ان يصبح بلدنا ساحة «اخرى» لصراع القوى القائم في المنطقة، فقد اقتربت النار عبر الاحداث الاخيرة كثيرا من بحيرات النفط وما لم نستمع لصوت العقل والحكمة وننبذ اصوات التأزيم والفتنة فلن يسلم بلدنا، وقد أعذر من أنذر!

احمد الصراف

لماذا لم أرث. أحمد الربعي؟

تساءل البعض عن سبب عدم كتابتي لأي كلمة تأبينية في الصديق والزميل الفقيد احمد الربعي! وانهم كانوا يتوقعون ذلك بحكم العلاقة التي كانت تربطني به منذ ما قبل الغزو والاحتلال وحتى ساعة رحيله!
لا اعتقد ان الكثيرين قد لاحظوا هذا التأخير، بخلاف من اخبرني به وعددهم لم يتجاوز اصابع اليد الواحدة، ولكن من لاحظ ذلك كان محقا، فقد كانت لي، ولا تزال، اسبابي الخاصة، وستبقى كذلك.
لا شك ان الفقيد كان ظاهرة مميزة وكان صاحب ذهن وقاد وذاكرة عظيمة، ولو كان في مجتمع آخر يحترم العقل والمنطق لكان حاله ووضعه شيئا آخر.
اخبرني صديق حضر جنازته انه لم ير قط مثل تلك الجموع التي جاءت من مختلف المناطق والمشارب للتعزية في فقيد الكويت بحيث غصت بهم المقبرة، وانه لم يشاهد مثلها في غير جنازات حكام الكويت السابقين.
ولكن ما ان لمح طرف ابتسامة على وجهي حتى سألني عن السبب فقلت له: اذا كانت له كل تلك المكانة والشعبية والمحبة وهذه الجماهيرية، وهذا ما لا اشك فيه، فلم اذا «سقط» في الانتخابات، ولم يكن يتوقع له النجاح في اي انتخابات قادمة؟ هز صديقي رأسه ولم يجب على تساؤلي!
ألم أقل انه «كان» في بيئة لم تعرف كيف تستفيد من شخصيته ومواهبه؟!
احمد الربعي كان كبيرا وكان مميزا وكان شيئا آخر، وكان سيبقى كذلك واكثر، الى ان قرر ان يصبح سياسيا، ومن بعد ذلك وزيرا للتربية! كانت تلك سقطته الكبرى التي توّجها بسكوته المخيف والمريب على قانون منع الاختلاط في الجامعة، ذلك القانون الذي سنبقى ندفع ثمنه المر والحارق والمكلف جدا لأجيال قادمة.
نعم، اعترف بأنني لم اكن اود ان اكتب عن المرحوم، لولا ذلك الرثاء الذي كتبه احد الزملاء عن الفقيد الذي ساواه فيه «بنسلون مانديلا»!.
هنا وجدت ان التاريخ سينقل كل ما كتب في رثائه كحقائق مسلم بها وسيضعه في مكانه، ربما كان هو سيبتسم ساخرا لسماعها، فقد كان متواضعا عالي الخلق!
نعم، احمد الربعي كان من الممكن ان يكون معلما كبيرا واكاديميا مميزا ولكنه لم يواصل ذلك.
نعم، احمد الربعي كان من الممكن ان يكونو فيلسوفا كبيرا وشاعرا مميزا، ولكنه لم يكمل ذلك.
نعم، احمد الربعي كان من الممكن ان يكون شيئا كبيرا وعظيما، لكنه اختار ان يكون سياسيا يبحث عن النجاح الانتخابي في بيئة ليس للعقل فيها مكان مميز ولا للمنطق مكانته، وكان حريا به معرفة ذلك.
احمد الربعي، المجاز في الفلسفة الاسلامية من اعرق الجامعات الاميركية كان من الممكن ان يكون شيئا آخر، شيئا اكبر بكثير مما كان عليه لولا انشغاله بالسياسة.
لو كان قرار احمد الربعي في حينها بيدي لاقنعته بترك السياسة واوحالها، وهذا ما طالبته به مرة فرفض ذلك بلباقته المعهودة.
لو كان قراره بيدي لجعلت منه سفيرا متنقلا لدى كل دول العالم ممثلا للوطن الذي احبه وبادله الحب، ولعينته المتحدث الرسمي والشعبي في قضايا الوطن ولكان صوت الكويت العاقل والرزين في كل ميدان وحفل، فقد كان مؤهلا لكل هذه المهام بصوته الواضح وحضوره المميز وبديهته السريعة ونكتته الجاهزة، مع كل الخبرة والعلم والثقافة العريضة التي جمعها في حياته، ولكن السياسة، بكل مساوئها، لم ترحمه وهي، ولا شيء غيرها، التي اتعبته في نهاية المطاف وهي التي قضت، منذ سنوات، على براءته الثورية وصفائه الروحي.
لقد فقدنا جميعا احمد الربعي، ولكننا جميعا مسؤولون عن فقده، وبسنوات طويلة قبل رحيله! فنفاقنا الاجتماعي، او ما نحب ان نسميه بـ«مجاملاتنا»، كانت تعطيه الصوت والوعد بيد وكانت تأخذ كل ذلك، عند صناديق الاقتراع، باليد الاخرى!
احمد الربعي كان اكبر مكانة واكثر فهما وثقافة وعلما من الكثيرين الذين بلغوا ما لم يستطع بلوغه، وهذا ما قضى عليه في نهاية الامر، فهل نتعلم من هذا الدرس القاسي ونخفف من نفاقنا الاجتماعي الذي نفضل تغليفه بسلوفان المجاملات لكي لا نفتقد احمد ربعي آخر، هذا اذا كان هناك من يستطيع ملء الفراغ الذي تركه بيننا!

أحمد الصراف