بعد ما يقارب الأربعين عاما من المد الطائفي والديني المتخلف على كل أنشطة الحياة في الكويت، بدا وكأن هذا المد والهيجان في طريقهما الى الانحسار!
كانت البداية في المطالبة الشجاعة التي أقدم عليها النواب علي الراشد، محمد الصقر وفيصل الشايع، بالرغم من كل مآخذنا على سكوتهم الطويل عن استفحال الأمور ووصول الأوضاع الخربة الى ما هي عليه الآن، بمطالبتهم باعادة النظر في قانون منع الاختلاط والغائه.
قد لا ينجح هؤلاء النواب في مسعاهم، ان لم تقف الحكومة ونوابها معهم، ولكن تصديهم للأمر في هذه المرحلة كاف بعد ان نشفت عواطفنا وجفت انفاسنا وتيبست مشاعرنا واصبحنا أكثر جلافة وقبحا مما كنا عليه قبل نصف قرن من فرط ما أصابنا من سوء الجراد ومصائبه.
لقد حاولت القوى الدينية، المتمثلة بالاخوان المسلمين، ومن بعدهم السلف، بكل انفاره واطيافه، طوال العقود الثلاثة الأخيرة، العبث بالدستور وتغيير مادته الثانية، ولكن عندما يئسوا من ذلك، وبعد ان اصبحوا اكثر ذكاء وقوة وتغلغلا في مراكز اتخاذ القرار، واقرب للسلطة منهم في أي وقت مضى، قرروا التصدي لتغيير المادة الثانية من الدستور بطريقة غير مباشرة، وعلى ارض الواقع، وترك الحال كما هي عليه على الورق.
وهكذا بدأت حركة تغيير المادة الثانية على الارض بسكوت وهدوء ومن دون جلبة، بحيث نجحت هذه القوى الدينية في تحويل الكويت المنفتحة والمدنية وشبه العلمانية الى دولة دينية حتى النخاع في كل مظاهرها ومخابئها بحيث اصبحت شوارعها وجدرانها وجسورها واعلاناتها ومؤتمراتها تنبئ بذلك دون ان تصرح به!
وكان نجاح هذه القوى المتخلفة في التغلغل لمراكز اتخاذ القرار في وزارتي التربية والتعليم العالي من اكبر منجزاتها في سبيل تغيير المادة الثانية، حيث اتاح هذا تغيير كامل مناهج وزارة التربية بشكل جذري. ثم نجحت هذه القوى نفسها وبمباركة السلطة في احيان كثيرة، وعلى حسابها، في تغيير الكثير من القوانين واصدار اخرى جديدة تتلاءم والتفكير السياسي الديني لهذه الاحزاب، وبالتالي انتشرت مدارس ومراكز التحفيظ، وتزايد كالفطر البري عدد الجمعيات السياسية الدينية وانتشرت فروعها غير القانونية وتمكنت في غفلة من الزمن من جمع المليارات وصرفتها دون رقيب او حسيب، واحيانا كثيرة دون وازع من ضمير. كما نجحت هذه القوى في «فرض» الحجاب في العديد من المواقع والانشطة، بحيث اصبح هو الطبيعي وغيره هو الشاذ والقبيح والمحرم. ونجحت القوى نفسها تاليا في نشر النقاب وخنق اي مطالبة حكومية امنية، ولو خافتة، لمنع ارتدائه حتى اثناء قيادة المركبة او السفر، بحيث اصبحت الكويت الوحيدة في العالم اجمع التي تسمح للمرأة، او الرجل، بقيادة مركبة والسفر خارج البلاد متى كانت، او كان، منقبا!
وطال التغيير البرامج التلفزيونية، والاعلانات، اصبح حتى اعلان لمشروب في جريدة او صحيفة اجنبية مدعاة للاثارة والشطب باللون الاسود واحياناً تمزيق الصفحة بالكامل. كما طال الأمر أنظمة الجيش والشرطة، ووصل الأمر للقطاع الخاص، وفرض الفصل الجنسي على المدارس والجامعات الخاصة، وطالب نواب، ونجحوا، في منع تواجد الجنسين في محل واحد، ومنع الذكور من البيع في محال النساء والنساء من البيع في محال الرجال. ووصل الأمر الى درجة فرضت فيها ادارة التعليم الخاص تعميما منعت فيه الاختلاط حتى في رحلات المدارس الخارجية، وهذا يعني انهذه القوى ستتبعنا حتى غرف نومنا.
كما اصبحت جهات معروفة تحرك مركباتها وفراشي دهانها فور الانتهاء من بناء جسر لتقوم بتزيينه بما تشاء من عبارات دينية لا يجسر احد على ازالتها. لقد انشغلت الدولة برمتها بالكثير من الأمور الخلافية، التي بالرغم من اهميتها، لا يمكن مقارنة خطورة السكوت عنها بخطورة هذا الاحتلال الديني لحياتنا ونفوسنا وحرياتنا وأبسط مسببات وجودنا في هذا الكون.
عندما بدأنا قبل 15 عاما بالضرب على وتر التنبيه من خطر المد الديني، كان الآخرون منشغلين تماما بقضايا المال العام وتعديل مواد الدستور ومعركة رئاسة المجلس وحرية الصحافة والدوائر الانتخابيةوقوانين البورصة والحقوق السياسية للمرأة وغير ذلك الكثير! وكنا، المرة تلو الاخرى، وبين كل مقال وآخر، نعود لطرق حديد هذا الموضوع دون كلل أو ملل لاقتناعنا منذ ذلك الوقت وحتى الآن بأن مصدر الخطر الأول على الدولة وعلى الشعب يكمن في الأحزاب الدينية وفي التطرف الديني والمذهبي. فما نشكو منه الآن من تشرذم سياسي مذهبي حضري بدوي يعود سببه الى سكوتنا عن تحول الدولة المدنية الى دولة دينية دون ان تنبس الغاليبة منا ببنت شفة، هذا اذا كانت تعرف اصلا ما كان يجري أمامها، دع عنك ما كان يجري تحت السطح!
أحمد الصراف