أ.د. محمد إبراهيم السقا

ماذا يحدث للجنيه المصري؟

في نهاية ديسمبر 2010 عندما شارفت ثورة يناير على الانطلاق، كان معدل الصرف الرسمي للدولار الأمريكي يساوي 5.8 جنيه. اليوم الدولار الأمريكي يساوي أكثر من ثمانية جنيهات، أي تراجع بمعدل 38 في المائة خلال السنوات الخمس الماضية، ولا شك أن تراجع الجنيه بهذه النسبة المرتفعة له انعكاسات جوهرية على المستوى العام للأسعار، وعلى مستوى معيشة المصريين، فضلا عن آثاره الأخرى، بصفة خاصة انعكاساته المالية من خلال استمرار الحاجة إلى رفع مرتبات العاملين في الدولة على نحو أكبر لتعويضهم، ولو بصورة جزئية، عن ارتفاع تكلفة المعيشة، وزيادة الإنفاق على الدعم.. إلخ.

تاريخيا مصر دولة تعاني خللا هيكليا في ميزان مدفوعاتها يتمثل في وجود فجوة واضحة بين صادراتها ووارداتها، الأمر الذي يؤدي إلى وجود عجز تجاري، يتفاقم بصورة مستمرة عاما بعد الآخر، دون أن يصاحب ذلك سياسات لتخفيف اعتماد مصر على الخارج، أو لتعزيز تنافسيتها ورفع قدرتها على ولوج الأسواق الخارجية. مصر تعتمد على الخارج في استيفاء معظم احتياجاتها السلعية، في الوقت الذي تتراجع قدرتها على إنتاج ما تحتاج إليه من الخارج بعد نبذ سياسات الإحلال محل الواردات، وتراجع الصناعة المصرية في الكثير من المجالات، بعد أن كانت تنتج معظم ما تحتاج إليه من الخارج، وتحول نمط الاستثمار محليا، حيث أصبح الجانب الأكبر من الاستثمارات الجديدة يتوجه إلى مجالات غير منتجة، مثل التطوير العقاري.

موطن الخلل الرئيس في ميزان المدفوعات المصري يكمن في الميزان التجاري، حيث توجد فجوة كبيرة بين صادرات مصر ووارداتها، على سبيل المثال فقد استوردت مصر من الخارج في العام الماضي بنحو 61 مليار دولار، في حين اقتصرت صادراتها السلعية على نحو 22 مليار دولار، ما يعني وجود عجز تجاري يقدر بنحو 39 مليار دولار. ساعد على تزايد هذه الفجوة تراجع صادرات مصر من البترول بنحو أربعة مليارات دولار نتيجة لانخفاض أسعاره.

تعتمد مصر في تمويل الجانب الأكبر من هذا العجز على التحويلات سواء الخاصة “تحويلات العاملين بالخارج” التي بلغت العام الماضي 19.2 مليار دولار، أو الرسمية التي بلغت العام الماضي 2.7 مليار دولار متراجعة من نحو 12 مليار دولار في العام قبل الماضي، وإيرادات السياحة التي بلغت 7.4 مليار دولار العام الماضي، وكذلك إيرادات قناة السويس التي بلغت في العام الماضي 5.4 مليار دولار، فضلا عن الاقتراض من الخارج.

في مقابل هذا الهيكل لسوق النقد الأجنبي في مصر، لا تتخذ مصر الإجراءات المناسبة للحد من تدفقات العملة الأجنبية إلى الخارج، كما أن جهود تعبئة موارد النقد الأجنبي إلى الداخل لا تتناسب مع خطورة ما تواجهه من قيود. مثل هذا الهيكل لميزان المدفوعات يجعل موارد مصر من النقد الأجنبي تتسم بالتقلب، مع ميل الفجوة في ميزان المعاملات الجارية إلى الاتساع بمرور الوقت، لذلك ليس من المستغرب أن تتراجع احتياطيات مصر من النقد الأجنبي، خط الدفاع الأول عن الجنيه المصري.

للإنصاف لا بد من الإشارة إلى أن مصر قد واجهت منذ خمسة أعوام ظروفا استثنائية نتيجة عدم الاستقرار السياسي الذي صاحب ثورة يناير التي أدت إلى تأثير جوهري في تدفقات النقد الأجنبي من الخارج، أدى إلى تراجع احتياطيات مصر من النقد الأجنبي من نحو 36 مليار دولار في 2011 إلى نحو 16 مليار دولار فقط في أيلول (سبتمبر) الماضي، فقدتها مصر في سبيل تغطية فجوة الطلب في سوق النقد الأجنبي وللدفاع عن قيمة الجنيه. صاحب ذلك اتخاذ السلطات النقدية بعض الإجراءات التي ساعدت على الحد من عرض النقد الأجنبي، مثل وضع حدود على قيمة النقد الأجنبي بصحبة القادمين إلى مصر، ووضع قيود على عمليات الإيداع النقدي سواء اليومي أو الشهري بالعملات الأجنبية في المصارف. بالتأكيد هذه الإجراءات تهدف إلى محاصرة عمليات الحصول على العملة من مصادر غير قانونية مثل السوق السوداء، لكن ليس كل ما يأتي بصحبة القادمين لهذا الغرض، وليس كل ما يودع نقدا في المصارف من نقد أجنبي مصدره أيضا غير قانوني، والأهم من ذلك كله هو أن الوقت غير مناسب لمثل هذه القرارات.

في عام 2014 قدم صندوق النقد الدولي نصيحة غبية لمصر، مدعيا أن مصر ستستفيد بشكل أكبر من تبني نظام أكثر مرونة لمعدل صرف عملتها الذي سوف يساعد مصر على استقطاب المزيد من الاستثمارات من الخارج وتشجيع السياحة، والمساعدة على توفير المزيد من الوظائف. مختصو صندوق النقد الدولي يتنقلون بين بلدان العالم بروشتات معيارية ينصحون بها أي اقتصاد، بغض النظر عن طبيعة القيود التي يواجهها، لذلك فإن سمعة الصندوق ليست براقة في الكثير من دول العالم، خصوصا العالم النامي.

ما تحتاج إليه مصر بالفعل هو عكس ما يوصي به الصندوق تماما، فمصر تمر بظروف استثنائية، تتطلب أيضا إجراءات استثنائية حتى تتمكن من السيطرة على تراجع عملتها، وإلى أن تستقر أوضاعها السياسية والأمنية بصورة مستدامة، وتستعيد قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية، وتكون قادرة على توجيه تلك الاستثمارات إلى النواحي التي هي بالفعل في حاجة إليها. على سبيل المثال فإن تحرير الجنيه يقتضي جدلا أن تكون مصر قادرة على زيادة صادراتها للخارج وتعبئة النقد الأجنبي من مصادر حقيقية تستند إلى تنافسية قوية للاقتصاد المصري، وهذا غير متاح حاليا لمصر. في ظل هذه الأوضاع عندما تحرر مصر الجنيه، فإنها تعرض اقتصادها لمخاطر جوهرية، باختصار لأن البنك المركزي لا يملك الآليات التي تمكنه من التحرير الآمن للعملة.

كانت مصر في 2012 قد قامت باتباع آلية إجراء مزادات على العملة للتحكم في تراجع قيمة الجنيه، وهي خطوة قد تكون مناسبة في الظروف العادية، أما عندما يتزايد الطلب على العملة وتنشط السوق السوداء لها، فإن اتجاهات السوق السوداء هي التي ستتحكم إلى حد كبير في المعدلات التي سيتم الطرح على أساسها في تلك المزادات، وفي الواقع، ومن خلال مراقبتي الطويلة لاتجاهات معدل صرف الدولار لاحظت أن السوق السوداء دائما ما تكون هي الموجه للتغيرات التي تحدث في سياسة معدل الصرف الأجنبي. أكثر من ذلك فقد قام البنك المركزي في يناير الماضي بالسماح للمصارف التجارية بتوسيع نطاق الهامش على السعر الرسمي بعشرة قروش ارتفاعا وانخفاضا، كذلك وفي هذا الشهر قام البنك المركزي بتخفيض قيمة الجنيه لمرتين متتاليتين في أسبوع واحد، وهي إجراءات تعكس اضطراب البنك المركزي وغياب الرؤية الصحيحة لديه.

في مايو الماضي وجه محافظ البنك المركزي رسالة للمصريين بالحد من استيراد سلع الاستهلاك الرفاهي لتخفيف الضغوط على احتياطيات البنك المركزي، ولكن الحد من استيراد هذه السلع لا يتأتى عبر النداءات، وإنما عبر سياسة تجارية صارمة. في رأيي أن حل مشكلة تراجع قيمة الجنيه في مصر لن يتأتى من خلال تعديل سياسات النقد الأجنبي، أو تخفيض قيمة العملة، وإنما سيأتي الحل بصورة أساسية من خلال سياسات التجارة والاستثمار، التي تعزز قدرة الاقتصاد الوطني على تعبئة مصادر النقد الأجنبي.

مصر في حاجة إلى التدخل على نحو أكثر صرامة في السيطرة على وارداتها من الخارج، وتشجيع الصناعات التي تحل محل الواردات لفترة مؤقتة، حتى تخفف من الطلب على العملات الأجنبية، في الوقت ذاته مصر تحتاج إلى تبني استراتيجيات ترخي قيود العرض من النقد الأجنبي من مصادره المختلفة، سواء السلعية أو الخدمية أو غير ذلك من مصادر، وتحد من الطلب على النقد الأجنبي، خصوصا الدولار، وفوق كل هذا، مصر في حاجة إلى المزيد من الاستقرار السياسي والأمني لإيجاد بيئة مناسبة لجذب الاستثمار، والحد من عمليات خروج رأس المال. حتى تستطيع أن تستعيد المستويات الآمنة لاحتياطياتها من النقد الأجنبي على النحو الذي يمكنها من إحداث استقرار مناسب في سوق النقد الأجنبي.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *