أ.د. محمد إبراهيم السقا

مصارف أكبر من أي شيء

كان من أهم النتائج التي ترتبت على الأزمة المالية العالمية أن حجم المصارف الكبرى أخذ في التزايد بصورة أكبر مع الأزمة، حيث عملت المصارف الكبرى في العالم على تعزيز حجمها، حيث أصبح عدد لا بأس به منها كبيرا للغاية إلى الحد الذي لا يمكن تحت أي ظرف من الظروف أن تسقط هذه المؤسسات، وذلك نظرا لطبيعة الروابط الكثيفة بينها وباقي المؤسسات المالية في الداخل والخارج، حيث يترتب على سقوطها مخاطر ضخمة للغاية تهدد ليس فقط القطاع المالي بأكمله، وإنما النشاط الاقتصادي المحلي والعالمي أيضا، وهذه الروابط الوثيقة تفرض على صانع السياسة أن يقوم بإنقاذ هذه المؤسسات بأي تكلفة تفاديا للخسائر التي يمكن أن تترتب على سقوطها. ولعل في التكاليف الضخمة التي تحملها العالم نتيجة سقوط مصرف ليمان براذرز في 2008 أفضل مثال على ذلك. لهذا السبب يطلق على هذه المؤسسات أكبر من أن تفشلToo Big to Fail.

المشكلة أن إدراك هذه المؤسسات هذه الحقيقة يجعلها لا تهتم كثيرا بالمخاطر التي تتحملها استنادا إلى إيمانهم بأنه في حالة تعرض المصرف لمشكلة فإن صانع السياسة سيتدخل لإنقاذه تفاديا للمخاطر التي يمكن أن تترتب على ذلك. بمعنى أن هذه الخاصية تتسبب في نشوء نوع من المخاطر الأخلاقية Moral Hazard لدى مديري هذه المصارف، تدفعهم إلى الانخراط في الأنشطة الخطرة بحرص أقل طالما أن هناك من سيتحمل النتائج المترتبة على سلوكهم هذا.

في كتابه بعنوان Austerity: The History of a Dangerous Idea لمؤلفه مارك بليث وصف هذه المؤسسات بأنها ليست فقط أكبر من أن تسقط، وإنما أيضا أكبر من أن تنقذ Too Big to Bail، ذلك أن هذه المؤسسات المالية غالبا ما تفرط في معدلات الرفع المالي عند مستويات لا معقولة، الأمر الذي يجعل من عمليات إنقاذ هذه المصارف باستخدام أموال دافعي الضرائب مسألة مكلفة للغاية.

كذلك أثبتت التجربة أن هذه المصارف ليس فقط أكبر من أن تفشل، وإنما مسؤولو هذه المصارف أيضا أكبر من أن يقبض عليهم Too Big to Nail، أو أن تتم مساءلتهم عن المخالفات المالية التي ارتكبوها، وترتب عليها خسائر مالية ضخمة للقطاع المالي. على سبيل المثال، على الرغم من المخالفات الفاضحة التي ارتكبها مديرو المصارف الضخمة في أزمة سوق المساكن الأمريكية، فضلا عن تلاعبهم بالقوائم المالية لمصارفهم مخفين الكثير من العمليات التي سجلوها خارج قوائمهم المالية Off the Balance Sheet، وتسببهم في الأزمة المالية العالمية، التي دفعت بالاقتصاد الأمريكي ثم العالمي نحو الهاوية، وتسببت في تحمل العالم تريليونات الدولارات في صورة تراجع مستويات النشاط والنمو، وارتفاع معدلات البطالة وغيرها من خسائر، فإن أحدا من هؤلاء لم يتم توقيفه ومساءلته عن ذلك، سواء في الولايات المتحدة أو في الخارج. معنى ذلك أن مسؤولي هذه المصارف طالما أنهم على رأس عملهم سيحصلون على مكافآت مالية ضخمة نتيجة قراراتهم المالية الخطرة، مطمئنين إلى أن قراراتهم ستجد من سيدفع تكلفتها، وأن أقصى ما يمكن أن يتعرضوا له من عقاب هو فصلهم من عملهم دون أي مساءلة.

على سبيل المثال في عام 2009 بعد الأزمة قامت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، بالنظر في قضية جولد مان ساكس المرتبطة بعمليات الإقراض العقاري في الولايات المتحدة، الذين أثبتوا بالمستندات قيام المصرف بمخالفات مالية تدين المسؤولين عن هذه العمليات، لكن المحققين كان لديهم قلق أساس من المضي في القضية وتوجيه اتهامات، ناتج عن التأثير المتوقع لذلك في سوق المال، والمسؤولين الماليين فيه. نتيجة لذلك لم تنته التحقيقات بتوجيه الاتهامات لأحد، والاكتفاء فقط بتغريم البنك 550 مليون دولار.

أكثر التطورات إثارة للاهتمام في هذا الموضوع ما كشف عنه تقرير ضخم نشر يوم الإثنين الماضي أعد بواسطة بعض الأعضاء الجمهوريين بعنوان “أكبر من أن تسجنToo Big to Jail”، داخل قرار وزارة العدل الأمريكية في ظل رئاسة أوباما بعدم محاكمة مسؤولي “وول ستريت”، الذي كشف عن إفلات مصرف إتش إس بي سي من المحاكمة الجنائية في نهاية 2012 بتهمة مخالفات مرتبطة بعمليات غسل أموال، السبب الأساس وراء إسقاط هذه الجرائم هو أهمية المصرف والروابط الوثيقة بينه وبين النظام المالي العالمي، ومن ثم الخوف من المخاطر النظامية التي يمكن أن تتبع قرار توجيه التهمة. حيث أهمل النائب العام في الولايات المتحدة في ذلك الوقت إريك هولدر التوصية الخاصة بالمحاكمة الجنائية لمسؤولي المصرف، بسبب تخوفهم من الآثار التي يمكن أن تترتب على ذلك، والتي يمكن أن تتسبب في صدمة للنظام المالي العالمي. وتم الاكتفاء بتغريم البنك 1.26 مليار دولار نتيجة تعمده الإهمال عن كشف عمليات غسل الأموال المرتبطة بتجارة مخدرات في المكسيك، وكذلك عدم الكشف عن عمليات مالية لدول واقعة تحت العقوبات المالية الأمريكية في تلك الفترة مثل إيران والسودان، وقد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل هنا على “الاقتصادية” في وقتها، ولكني، كغيري، لم أطّلع على المعلومة الخاصة برفض توجيه التهم الجنائية لمسؤولي المصرف.

من التفاصيل المثيرة أيضا ما كشف عنه التقرير من أن جورج أوزبورن وزير المالية البريطاني السابق قد تدخل لدى الحكومة الأمريكية للحيلولة دون توجيه التهم الجنائية للمصرف، محذرا من النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على ذلك على النظام المالي، نتيجة ما يمكن أن ينعكس من آثار سلبية على استقرار المصرف واستقرار النظام المالي البريطاني وكذلك على النظام المالي العالمي. أكثر من ذلك فقد تدخلت هيئة الخدمات المالية البريطانية للحيلولة دون توجيه تهم الجنائية للمصرف.

العالم بالفعل في موقف حرج أمام هذه القضية الشائكة، فحتى اليوم لم تنجح أي محاولة لتحجيم هذه المؤسسات الضخمة، التي تفرض بوجودها تحديات ضخمة للمنظمين الماليين وصناع السياسة مرتبطة بعدم قابليتها للفشل، وفداحة التكلفة المالية لإنقاذها في حالة تعرضها للمخاطر، وعدم القدرة على توجيه التهم لمسؤوليها أو فصلهم أو حتى توجيه التهم إليهم، إنها بالفعل مصارف أكبر من أي شيء.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *