عبدالله النيباري

حكومتنا… «تبي مرق من حديدة»

برنامج الحكومة للإصلاح، أشبه بمن يريد الحصول على «مرق من طبخة حديدة»، فحكاية الإصلاح المالي والاقتصادي في الكويت قديمة عمرها عقود من الزمن.
في بداية عهد الاستقلال عام 1961 – وأستميح القارئ عذراً باستعادة وقائع سبق التطرق لها – استقدم الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، عندما كان وزيرا للمالية آنذاك، بناء على توصية مستشاره حينها د. فخري شهاب، بعثة من البنك الدولي، التي حضرت برئاسة الخبير ماكدير مود، وقد كلفت مرافقتها في بداية توظيفي، وبقيت البعثة فترة محددة، تقدمت بعدها بتقرير حول المسار الاقتصادي، وهو أول تقرير اقتصادي عن الكويت، وفق علمي، الذي مازلت أبحث عنه في أروقة الدولة، راجيا ممن يجده أن يتكرم به عليّ.
وسارت الكويت بخطوات معقولة في تلك الفترة، ومنها استبدال العملة من الروبية إلى الدينار، وكان نصيبي أن أكلف تسلُّم العملة الجديدة من ميناء الأحمدي، مندوباً عن مجلس النقد الكويتي (بنك الكويت المركزي حاليا) بمعية سفيرنا في بريطانيا، أحمد عبدالوهاب النقيب، الذي أصبح لاحقاً مندوباً عن شركة نفط الكويaت، وأذكر هذه المعلومة من باب الطرافة والتشويق لا التمجيد.
بعدها، دخلت الكويت المرحلة الدستورية، بانتخاب المجلس التأسيسي وإصدار الدستور عام 1962، وانتخاب مجلس الأمة 1963، إلا أنه بعد وفاة المغفور له الشيخ عبدالله السالم، بدأت المسيرة تتعثر، فتم إقرار القوانين المقيدة للحريات عام 1965، تلاها تزوير الانتخابات البرلمانية عام 1967.
بعد هذه الأحداث، جاءت مبادرة التصحيح من رئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ جابر الأحمد، فكانت انتخابات 1971، التي أعادت الثقة والآمال بالمجلس المنتخب، بعد أن حقق مكاسب عديدة، أهمها ما يتعلق بقضايا النفط من معركة «تنفيق» العوائد إلى المشاركة، ثم إلى التأميم، ومنها رفع أسعار النفط، الذي تضافرت فيه الظروف، منها مطالب دول «أوبك» برفع أسعار النفط من دولارين إلى 13 دولاراً، وحدث ذلك بعد حرب أكتوبر عام 1973، التي كانت عاملا مساعداً مهماً، خصوصاً بعد قطع النفط عن الدول التي ساعدت إسرائيل.
في عام 1971، كان دخل النفط نحو 300 مليون دينار، وقفز في عام 1981 متجاوزاً المليار، وهي المرة الأولى التي يتخطى فيها هذه العتبة، وفي عام 1980، بعد ثورة الإمام الخميني، ارتفعت أسعار النفط من 13 إلى 35 دولاراً للبرميل الواحد، ما أحدث أزمة في الدول المستهلكة الكبرى (الدول الغربية)، التي قامت بإنشاء وكالة الطاقة الدولية، لاتخاذ إجراءات في مواجهة دول «أوبك» ومسألة ارتفاع الأسعار.
في عام 1986، حدثت أول أزمة جادة لتراجع أسعار النفط إلى ما دون 13 دولاراً للبرميل، بسبب الإجراءات المتخذة من الدول الغربية، وأيضاً تم اكتشاف نفط بحر الشمال في النرويج وبريطانيا، وأحدث هذا الانخفاض هزة وأزمة لدول «أوبك»، ومنها بالطبع الكويت.
في تلك الفترة، دعا الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد مجموعة من الاقتصاديين، من بينهم المرحوم يوسف إبراهيم الغانم، الذي كان عضواً في شركة البترول الوطنية قبل تأميمها، وعلي الرضوان، ومحمود خالد العدساني، والمستشار د. سالم الطحيح، وشخصي المتواضع، للقاء برئاسته، وطرح الأمير رأيه في أسباب ودواعي تشكيل اللجنة، وقال: «أنتم اتصالكم معي مباشرة»، وقبل أن يشرح رؤيته للوضع وتوجيهاته، بادر بعض المدعوين إلى إبداء ملاحظاتهم، وبعضهم استبق ذلك، بتقديم مقترحات للحل، وبدأ طرح الآراء والتساؤلات، ومن ناحيتي أبديت ملاحظة قلت فيها «إن معالجة الوضع المالي والاقتصادي في البلد أشبه «بدورة مركب»، أي تستغرق وقتاً وجهداً، وبناء على بحث ودراسة، أي لا تنفع معها الحلول العاجلة المتسرعة والوقتية، فرد سموه، قائلا: «عبدالله يقول دورة مركب، احنا الجرح وصل اللحم الحي، أي نواجه عجزاً مالياً يضطرنا للاستدانة أو السحب من الاحتياطي العام».
انتهى الاجتماع بطلب المجتمعين تمكينهم بما يتوافر من معلومات وتشكيل لجان.
كان ذلك عام 1986 بوجود مجلس 1985، الذي عادت إليه المعارضة بقوة، لكن في صيف ذلك العام (1986)، فاجأت السلطة الشعب بحل المجلس من دون سابق إنذار، كما حدث في مجلس 1975، الذي تم حله أثناء العطلة البرلمانية.
ففي مجلس 1985، قدمت الحكومة أول وثيقة لخطة تنمية اقتصادية لخمس سنوات مقبلة، وأقرها المجلس، مصراً على صدورها بقانون، ما يعني أن عدم الالتزام بها تترتب عليه محاسبة سياسية، لكن السلطة عادت إلى حل المجلس، بهدف تعديل الدستور، فدخلت البلاد في صراع بين قوى الشعب والسلطة، والحراك الشعبي الذي عُرف بدواوين الاثنين، وإصدار الحكومة تعديلاتها غير الدستورية، التي أهمها استبدال مجلس الأمة الشرعي بمجلس وطني، جزء منه منتخب، والآخر معين، وواجهت الانتخابات معارضة ومقاطعة شعبية واسعة.
وفي عام 1990، جاءت نكبة الكويت بكارثة الغزو العراقي، وبعد التحرير في 26 فبراير 1991، تراجعت الحكومة عن مجلسها الوطني، بعد رفض شعبي عارم له، وأعادت العمل بقرارات مؤتمر جدة، وأهمها إعادة العمل بالدستور، وهو ما حدث في الدعوة لانتخابات أكتوبر عام 1992، وسارت الأمور بشكل جيد إلى أن وصلنا إلى أزمة رشوة النواب، بإيداع مبالغ مليونية في حساباتهم المصرفية، وتداعي الأحداث، حتى وصلنا إلى قانون الصوت الواحد، بتعديل قانون الانتخابات بمرسوم، ووقعنا في المأزق الذي نحن فيه.
واليوم، فإن معالجات الحكومة والمجلس تحوم حول إجراءات جزئية لن تفي بغرض تخفيض العجز المتوقع في الميزانية بدرجة كبيرة، فقد شدد سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد في لقائه مع الصحافيين على ضرورة رفع أسعار البنزين والكهرباء، إلا أن الحكومة حتى الآن لم تفصح عن مشروعها، لكنها لم تبتعد كثيراً عن المعلن.
فرفع أسعار البنزين بنسبة 45 أو 50 في المئة، لن يحقق أكثر من 240 مليون دينار في أفضل الأحوال، أما رفع أسعار الكهرباء، فلن يدر كثيراً، لأن الاستهلاك الأساسي 50 في المئة منزلي، والأسعار ستبقى عند حد الفلسين، حتى لو رفعت إلى 4 أو 6 فلوس، وستبقى في حدود 10 إلى 15 في المئة من إجمالي تكاليف إنتاج وتوزيع الكهرباء والماء، البالغ 2600 مليون دينار، مقابل إيرادات 240 مليوناً، أي 10 في المئة من التكاليف، وزيادة الإيرادات بنسبة 15 في المئة لن تزيد في أحسن الأحوال على 360 مليونا، مقابل عجز 2400 مليون في ميزانية وزارة الكهرباء والماء.

الخطط الاقتصادية

آخر خطة تنمية جاءت بها هذه الحكومة هي خطة 2015-2020، حيث كان من أهدافها إصلاح الخلل الاقتصادي والمالي، وسبقتها خطط كثيرة في عامي 1986 و1992، وخطة 2001-2006، وخطة 2006-2011، وكلها استهدفت تصحيح الخلل الاقتصادي والمالي، وقس على ذلك.
ونتساءل: هل ستحقق هذه الحكومة ومجلسها، اللذان لم يبق من عمرهما إلا سنة واحدة، ما عجزت عنه في السنوات الثلاث الماضية، أم أنها كمن «يطبخ حديدة ليحصل على المرق»، أي حسب المثل الكويتي (يبي مرق من حديدة)؟!
إصلاح الاقتصاد، حتى مع توافر الجدية وفق خطة أو برنامج نتيجة دراسة موضوعية وفكر مستنير وإخلاص وتفان في التنفيذ، هو في أحسن الأحوال دورة مركب، ويحتاج إلى مؤسسات سليمة وعزم يفل الحديد، وإخلاص عميق وشديد، وقبل هذا وذاك استئصال الفساد ووقف الهدر المالي… فهل هذه الأمور متوافرة لإنعاش شعرة تفاؤل؟

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *