أ.د. محمد إبراهيم السقا

هل فشلت سياسات تحديد النسل في العالم؟

هل فشلت سياسات تحديد النسل في العالم؟ سؤال يلح على ذهني منذ وقت طويل وأنا أرى العالم يتحرك باتجاه مخالف لتلك المفاهيم التي تربيت عليها، حيث كان الحديث دائما ينصب على مخاطر الإفراط في عمليات الإنجاب، ومزايا الأسرة الصغيرة، وأهمية تحديد النسل للسيطرة على نمو السكان. وعندما كبرت أخذت أدرس نماذج النمو الاقتصادي الكلي ودور النمو السكاني فيها وأهمية السيطرة على النمو السكاني في العالم، خصوصا في الدول النامية.

لا شك أن أقسى النظم وأكثرها صرامة في تحديد النسل هو ما تبنته الصين تحت مسمى سياسة الطفل الواحد، حيث لا يسمح للأسر بإنجاب أكثر من طفل، بالطبع الهدف الأساسي من السياسة كما أعلن وقتها هو لتفادي المخاطر التي يمكن أن تصاحب النمو السكاني في الصين، وبمرور الوقت أصبحت ثقافة إنجاب الطفل الواحد إحدى الثقافات التي تجذرت بين الأسر الصينية حاليا.

بعد عقود من الدعوة لتحديد النسل بدأت تظهر على السطح اتجاهات جديدة تعكس خطورة النتائج التي تترتب على تحديد النسل. بصفة خاصة فقد أعلنت الصين أخيرا عن وقف سياسة الطفل الواحد، حيث أصبحت تشكل تهديدا للاقتصاد الصيني، فتم السماح للأسر تحت شروط معينة بإنجاب طفلين.

بعض المراقبين وصف الخطوة الصينية بأنها جاءت متأخرة، وأنه كان من الواجب على الصين أن تتحرك بصورة أبكر لوقف السياسات الحالية لتحديد النسل، حتى يمكن دفع مزيد من العمال إلى سوق العمل، بعد أن أصبح من المؤكد أن أعداد العمال في الصين لا تتوافق مع احتياجاتها السكانية في المستقبل.

المشكلة التي قد تواجه الصين هي أنه على الرغم من السماح للأسر بإنجاب أكثر من طفل، فإن الأسر قد لا ترغب في إنجاب أكثر من طفل بعد أن تعودت لأجيال على إنجاب طفل واحد فقط، ومن ثم فإن السياسات الجديدة قد لا تفلح في إقناع الأسر بإنجاب مزيد.

إنها ذات الصورة، التي تواجهها في دول مثل أوروبا واليابان، حيث لا توجد سياسات لتحديد النسل، ولكن الأسر اعتادت أن تقدم طوعا على عدم الإنجاب أو إنجاب عدد أقل من الأطفال كجزء من ثقافتها في الحياة، لكن ذلك أصبح يهدد مستقبل الحياة في هذه الدول، حيث انخفض النمو في أعداد السكان، وفي بعض الحالات تراجعت أعداد السكان.

الخطر الجديد الذي يواجه دول العالم الآن وفي المستقبل ليس فقط في تراجع معدلات النمو في السكان أو أعدادهم، وإنما أيضا في ارتفاع نسب كبار السن، أو الشيوخ من السكان، وهي الظاهرة التي أصبحت مخاطرها تفوق مخاطر ما تم الحديث عنه من مخاطر القنبلة السكانية الناتجة عن زيادة أعداد السكان في العالم.

ولكن ما خطورة مثل هذا الاتجاه في العالم؟ الإجابة هي أن العالم سيواجه مشكلات في رفع مستويات الطلب الكلي في ظل هذه الهياكل السكانية، وهو ما يقلل من معدلات النمو الكامن الذي يمكن أن ينمو به العالم، ففي ظل هيكل اقتصادي يقوم في جانب كبير منه على الطلب الكلي المحلي، يؤدي تراجع أعداد السكان وارتفاع نسب الشيوخ منهم إلى الحيلولة دون تحقيق العالم مستهدفات النمو الخاص بها، وذلك مع تراجع مستويات الإنفاق الاستهلاكي بسبب انخفاض معدلات النمو السكاني، الأمر الذي يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه الدورة الخبيثة للنمو السكاني في العالم، فالصعوبات الاقتصادية التي ستواجهها اقتصادات العالم نتيجة تراجع النمو السكاني وارتفاع معدلات الشيخوخة ستؤدي إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يحول دون تكوين الأسر الجديدة، فيحدث إخفاق في الوصول إلى المستهدفات الديموغرافية التي تؤثر في النمو الاقتصادي، فالنمو السكاني وهكذا.

للتعرف على خطورة الأوضاع في العالم دعونا ننظر إلى الإحصاءات المتاحة عن معدلات الخصوبة في العالم. معدل الخصوبة الإحلالي هو 2.1 (21 مولودا لكل ألف امرأة) أي المعدل الذي يضمن ثبات أعداد السكان عند مستوياتها الحالية. عندما يرتفع معدل النمو السكاني عن معدل الإحلال، فإن ذلك يعني أن أعداد السكان ستتزايد، وعندما يقل عن المعدل الإحلالي، فإن أعداد السكان تكون مرشحة للتناقص. وفقا للبيانات المتاحة، فإن معدل الخصوبة يزيد على المعدل الإحلالي في دول العالم الفقير أو النامي بشكل عام، أي الدول التي لا تحتاج إلى نمو سكاني، على سبيل المثال يصل المعدل إلى 6.8 في النيجر و6 في بوروندي ومالي.

الدول التي تحقق معدل الخصوبة الإحلالي حاليا هي فرنسا وإندونيسيا والمغرب والسعودية وسريلانكا، بينما الدول التي يقل فيها معدل الخصوبة عن المعدل الإحلالي، فمعظمها من الدول الصناعية، حيث يتحقق معظم النمو الاقتصادي في العالم، مثل الصين وكندا (1.6) والبرتغال وإسبانيا (1.5)، وألمانيا وإيطاليا واليابان (1.4) وكوريا الجنوبية (1.2)، بينما يصل معدل الخصوبة في سنغافورة إلى 0.8، أي 8 أطفال فقط لكل ألف امرأة. للأسف أعداد الدول التي تنخرط تحت معدل الخصوبة الإحلالي تتزايد بمرور الوقت.

الظاهرة الأخرى المثيرة للقلق هي ارتفاع نسبة الشيوخ (أكثر من 60 عاما) إلى إجمالي السكان في العالم، فوفقا للبيانات المتاحة في الوقت الحالي تصل نسبة هؤلاء على مستوى العالم 12.3 في المائة. غير أن نسبتهم يتوقع أن تزداد في عام 2030 إلى 16.5 في المائة، وفي عام 2050 إلى 21.5 في المائة، وهي نسب نمو مقلقة جدا، أي أن يكون شخصا من بين كل خمسة أشخاص في العالم من الشيوخ بحلول عام 2050.

غير أن هناك تفاوتا كبيرا في نسب الشيوخ إلى إجمالي السكان على مستوى العالم. على سبيل المثال في عام 2015 تبلغ نسبة كبار السن 3.8 في المائة فقط في أوغندا ونيجيريا 4.5 والعراق 5 في المائة وموزمبيق 5.1 في المائة والأردن 5.4 في المائة وباكستان 6.6 في المائة والهند 8.9 في المائة، والصين 15.2 في المائة وكوريا الجنوبية 18.5 في المائة. أما أعلى المعدلات فتوجد في فرنسا 25.2 في المائة والبرتغال 27.1 في المائة وألمانيا 27.6 في المائة وإيطاليا 28.6 في المائة واليابان 33.1 في المائة.

التقديرات تشير إلى أن الوضع في عام 2050 سيكون مرعبا، حيث إن عددا كبيرا من دول العالم ستتضاعف فيها هذه النسب، فبغض النظر عن إفريقيا التي قد تتحقق فيها أقل نسب الشيخوخة مثل أوغندا 6 في المائة وموزمبيق 6.2 ونيجيريا 6.3 في المائة. فإن الأوضاع ستكون غير مستدامة في اليابان، حيث تبلغ نسبة السكان الذين يتجاوزن 60 عاما 42.5 في المائة ، بينما تقفز النسبة في كوريا الجنوبية إلى 41.5 في المائة والصين إلى 36.5 في المائة، بينما تصل نسبة الشيوخ في ألمانيا 39.3 في المائة وإيطاليا 40.7 في المائة واليونان 40.8 في المائة، والبرتغال 41.2 في المائة وإسبانيا 41.4 في المائة، ومن الناحية المطلقة يتوقع أن يكون هناك نحو 360 مليون شخص فوق سن الـ60 في الصين في 2030، بينما يتوقع أن يصل العدد في الهند لنحو 190 مليون شخص.

بعض هذه الدولة مكبلة بعبء ديون ضخم جدا. بالطبع يمكن للدولة أن تستمر في الحفاظ على مستويات الدين الحالي من خلال تدوير الدين، لكن المشكلة أن هذه الديون في تزايد، ويحتاج الأمر إلى تحقيق وفورات مالية للسيطرة على النمو في الديون. غير أن تحقيق الوفورات المالية يصطدم بعبء التكاليف التي تترتب على ظاهرة الشيخوخة، بسبب ارتفاع فاتورة الضمان الاجتماعي والمعاشات التقاعدية وكذلك فاتورة الرعاية الصحية لكبار السن.

بالطبع يمكن تعويض ذلك جزئيا من خلال قبول مزيد من المهاجرين مثلما تفعل أوروبا في الوقت الحالي، لكن هذه السياسات سيترتب عليها تغيير التركيبة العرقية والدينية بهذه الدول بصورة هيكلية، وقد ينشأ عنه اضطرابات تعرض الاستقرار الاجتماعي والسياسي في هذه الدول للخطر، وبالتالي لا خيار أمام العالم سوى تحفيز عمليات الإنجاب.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *