محمد الوشيحي

بقايا قلم هيكل

مات أخيراً أفضل مَن يطلق المصطلحات فيحفظها الناس ويتداولونها. مات صاحب مصطلح “مراكز القوى” الذي ارتد عليه وسُجِن بسببه، باعتباره أحد هذه المراكز. مات الذي دلّع الهزيمة المخزية وأعطاها اسماً وردياً، “النكسة”، وما زال هذا المصطلح يُتداول حتى اللحظة.
مات الذي يقال إنه أول مَن استخدم لقب “زعيم الأمة” وأطلقه على عبدالناصر. مات مؤلف شعار “ما أُخِذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. مات الذي انقلب على مَن غمروه بجميلهم (مصطفى وعلي أمين). مات الذي كتب مقالة في مجلة “آخر ساعة” حتى امتلأت، وأكمل بقيتها في جريدة أخبار اليوم، وكان الناس يتنقلون ما بين هذه وتلك لقراءة ما كتبه.
مات الذي كانت نشرات الأخبار، في عهد عبدالناصر، تقرأ مقالاته للمشاهدين. مات الذي كانت شوارع مصر، في أيام الجمع، تستيقظ على صراخ باعة الصحف: “اقرأ هيكل… اقرأ هيكل”.
مات محمد حسنين هيكل، صحافي البلاط الأشهر، ولم يمت قلمه. وكنت كلما سألني شاب يطمح إلى الكتابة في الصحف: “أي الكتّاب السياسيين تعتبره الأفضل؟”، أجيب فوراً: “كُثر، لعل هيكل أبرزهم. احرص على قراءة هيكل”. هو الأفضل في الكذب والتزلف والغدر، وهو واحد من أفضل من صاغ الجملة وكثّفها ولوّنها. كان يداعب الكلمات باستعراضية مبهرة على منكبيه ورأسه وركبته، كما كان يفعل مارادونا بالكرة. وكنت أعيد قراءة ما كتب، لا بحثاً عن معلومة، ليقيني بعدم مصداقيته، بل لسببين: الأول، محاولة معرفة طريقته في الصياغة، والثاني، للاستمتاع بسلاسة قلمه، رغم جدية مواضيعه وعبوسها.
مات أحد أكبر المستفيدين من “قضية فلسطين”، وأبرز الرابحين فيها. مات صديق القصر الرئاسي، الذي كان يعشق عبدالناصر ويكره السادات. والسادات لا يقل عشقاً للصحافة والإعلام عن عبدالناصر، بل لعله يتفوق عليه. وكان السادات ومجموعة من الضباط، قبل الانقلاب، في السجن، بتهمة قتل ضابط بريطاني، وهناك أسسوا صحيفتين، أطلقوا على إحداهما اسم “الهنكرة والمنكرة”، وتولى السادات “رئاسة تحريرها”، وبعد موت السادات، سخر هيكل من طريقة السادات في التعاطي مع الإعلام، ولم يكن يتوقف عن التذكير بـ”الهنكرة والمنكرة”، مستغرباً “كيف تُنشأ صحيفة من دون معلومة”، رغم علمه أنها لم تكن إلا مساحة للتسلية وكتابة الأفكار والرؤى والنكات، لتزجية الوقت في السجن، لا أكثر، لكن هيكل لا يتورع عن استخدام أي سلاح يمكن أن “يقتل” به خصمه.
مات هيكل، صاحب أعلى الأصوات المطالبة بحرية الرأي والكلمة، والذي في عهده، أقصد عهد عبدالناصر، تم سجن أكبر عدد من أصحاب الرأي، نسبياً.
مات هيكل، أحد أهم الكتّاب في التاريخ العربي المعاصر. مات، وما زال لقلمه بقايا، والناس شهود الله في أرضه.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *