حسن العيسى

«وَن تراك»

(عقل ون تراك one track mind) يمشي باتجاه واحد لا يمكنه التفكير باتجاه مخالف، ليس بالضرورة مفروض على صاحبه أن يقلب نهج تفكيره رأساً على عقب، صاحبه لا يستطيع التفكير، مجرد التفكير بغير الطريقة التي تعود وتعلم وتربى عليها. هي مسألة مستحيلة أو صعبة وفيها مخاطرة على صاحبها لأنها تثير قلقه، والقلق يعني الوسواس، وهذا أمر محفوف بالمخاطر والتعب النفسي، وهو في غنى عن الأمرين، دائماً يسير باتجاه واحد، دائماً يجد خطر سيره “الأحادي” فهو الأسلم، والأريح والأضمن، للوصول للغاية التي يتوهمها، مع أنه، حقيقة، لا توجد غاية ولا هدف عنده، غير البقاء في خط سكة السير ذاتها، ولو كانت لا توجد أساساً سكة ولا طريق يوصل للهدف، هي وهم وخيالات مريضة.
عقل “ون تراك”، لا يقبل الجدل، أقصد الجدل الذي يحرك خلايا المخ الخامدة، ويشكك في المطلقات والمسلمات، قد يستمع منك لدقيقة أو دقيقتين ثم يقفز مقاطعاً غاضباً عندما تتلفظ بأي كلمة تهز قناعاته الراسخة، والتي عنده تمثل عنوان الحقيقة، مثلما يقول فقهاء القانون عن الأحكام القضائية.
كثيراً ما نتهم الجماعات الدينية المتشددة بأنهم من فرق “ون تراك” حين يغلقون على أنفسهم شبابيك النور والجمال كي لا تدخل منها نسائم التغيير والتجديد، وهي سنة الكون والوجود والزمن المتدفق للأمام، وهذا ليس دقيقاً، فالتشدد والتزمت بالسير في اتجاه واحد ليس قاصراً عليهم، فأي جماعة تعتنق مبدأ صنمياً ماركسياً أو قومياً أو ليبرالياً متشدداً (يسمونهم نيو ليبرال، أو اليمين المتشدد)، وغيرهم كثيرون من الجماعات التي تنتفخ أوداجهم وتقطب حواجبهم، وترتسم خطوط متعرجة على جباههم، إذا سقطت من فمك كلمة فيها فكرة لموضوع نقاش “ليس متفقاً عليه” هم أيضاً من حزب “ون وي تراك”.
دفع التاريخ الإنساني ثمناً كبيراً بسبب فرق الـ”ون تراك”، فمثلاً وليس حصراً، كانت الحروب الدينية في أوروبا بعد دعوة مارتن لوثر للمذهب البروتستانتي شكلاً من أشكال “الون تراك” عند الكاثوليك والبروتستانت، وكانت محاكم التفتيش في إسبانيا قبلها، وظهرت الفاشية والنازية، والاثنان رمزان لفكر الون وي، باختصار فكل الاتجاهات التعصبية والمتعالية سواء مثلها دونالد ترمب أحد مرشحي الحزب الجمهوري الأميركي، أو اختزلت في أي واحد من جماعات “لا تفرح ولا تبتهج في فبراير”، فالأمة الإسلامية العربية بحزن “كلهم من منتخبات الون تراك”…! وكأننا نريد أن نداوي الحزن بمزيد من الأحزان بطريقة داوني بالتي كانت هي الداء.
ألهمني لهذا المقال مقطع يوتيوب لجاسم السعدون، يقول فيه عن الحوار مع السلطة مثل “ون تراك”، فالسلطة ترسل ولا تتلقى، أي هي جهاز مذياع يبث ولا يقبل الرد… ما العمل إذن؟ من فوق السلطة “ون تراك”، وحولنا تحيط بنا جماعات “ون تراك” فأين نهرب من استبداديات هذا الطريق الدائري المغلق بدوائر الون تراك، حظنا يمثله ابن لعبون (أو عبدالله الفيصل أو بدر عبدالمحسن أو جاسم بن عبدالرحمن… لا أعرف حقيقة شاعر تلك الحكمة) الذي قال “كلما دقيت في أرض وتد من ردات الحظ وافتني حصاة”…!

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *