إبراهيم المليفي

أسوار الذاكرة

الأمكنة والناس، لا أعرف تحديداً أيهما التي تخلق الرابط الوجداني بيني وبين المكان، هناك أمكنة خلت من الناس ما عداي وما زلت أعشقها، وهناك أمكنة اختلط فيها وجود الناس مع المكان كالمدارس والمقاهي فأصبحت كيانا متكاملا عشت فيه لفترة من الزمن، ثم تسرب الناس وبقي المكان شاهداً مؤلماً لأيام حلوة مضت.
ليس بعد كيفان منطقة تنازع محبتي لها، حاولت وفشلت رغم ذكرياتي الجميلة في الشامية والعارضية، ولكن تبقى هناك بقع مكانية خارج كيفان لها معزة خاصة، مثل ديوانية الروضة التي تمثل مرحلة إعلان الاستقلال بعد حصولي على رخصة القيادة، ومراحل ما قبل الغزو وخلاله، ومرحلة بعد التحرير، وهي جميعها لا تزيد على ثلاث سنوات، ثم انفضّ الجمع وذهب كل صديق لحاله.
البقعة الثانية وحدودها أسوار كلية التجارة في منطقة العديلية، وفيها تجاوزت مرحلة الارتباط بالمكان إلى محطة تبديل شخصية في التفكير والطموح، والاحتكاك مع أفكار وشخصيات تطورت من حالتها الصبيانية التي انتهينا عليها في مراحل دراسية سابقة إلى مرحلة الاتزان النسبي والتحفز لدخول معترك الحياة الحقيقية، الطريف أن بعض الشخصيات سارت بالطريق المعاكس، إذ كانت أكثر اتزاناً قبل الجامعة ثم أصابها الخبال بعد دخولها، والأطرف أن من كانوا “سنعين” طوال حياتهم “فصخوا” الحياء بعد “تويتر”.
تبقى بقعة ثالثة ادّخرتها للآخر لخصوصيتها، وهي ثانوية اليرموك للمقررات التي تحولت لاحقاً إلى مكتب الشهيد، ثم انتهت لتكون الحاضنة الدافئة لدار الآثار الإسلامية، في تلك الثانوية التي انتقلت إليها من ثانوية كيفان، لامست الكويت بكل مكوناتها، وارتبطت بعلاقات مع زملاء من مناطق مختلفة، تعرفت فيها على عالم أوسع من عالم منطقة كيفان، تمكنت من الاندماج وفهم عالم الجامعة والمجتمع لاحقا، وبطبيعة الحال لا تخلو ذكريات الثانوية من المراهقة والشغب والتمرد والتحديات والمنافسات في الكرة والدراسة وتسلق الجدران.
الآن وبعد أن تحولت ثانويتي القديمة إلى دار الآثار الإسلامية شعرت بالاطمئنان أولاً والفخر ثانياً، الاطمئنان أتى من ضمان بقاء هذا المبنى وعدم إزالته كحال الكثير من الأماكن التراثية والتاريخية التي نزعت من الوجود الملموس دون أن يشعر أحد بها، أما الفخر فمرده إلى أن هذه البقعة الصغيرة التي درست فيها تبدلت وظيفتها للأحسن من دار علم إلى دار وفاء إلى دار ثقافة تقودها شخصية عرفت بتفانيها وحبها لعملها، هي الشيخة حصة صباح السالم، ويحق لأهل اليرموك أن يفاخروا بالإضافة الجديدة لمنطقتهم، وهي دار الآثار الإسلامية بعد أن سبقوا بأول حديقة نموذجية صديقة للبيئة.
لقد تسنى لي قبل أيام دخول ثانويتي القديمة والتجول فيها مع الشيخة حصة، وبينما كانت هي تشرح لي ما سيحصل في المستقبل القريب في هذا المسرح أو ذلك الفناء، كنت أعيد لها شيئاً من ذكرياتي في المكان نفسه قبل ثلاثين عاما.
في الختام ما زال في هذا الوطن أمل يعد بأن القادم أفضل، فبينما كنت أخشى زوال ثانوية كيفان بعد تهالك مبناها عادت لتشرق بحلة جديدة باهية، وأخذت كلية البنات مكان كلية التجارة، مع تعاطفي الكامل مع جميع سكان البيوت المحيطة بتلك الكلية، وأخيراً ستزهو ثانويتي القديمة بأزهار جديدة لا تهزمها حرارة الشمس ولا أتربة السياسة.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

إبراهيم المليفي

كاتب ومحرر في مجلة العربي الثقافية منذ 1999 وصاحب زاوية الأغلبية الصامتة بجريدة الجريدة منذ 2010

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *