أ.د. محمد إبراهيم السقا

ماذا يحدث للفرنك السويسري؟

فوجئ العالم في الأسبوع الماضي بقيام البنك المركزي السويسري بفك ارتباط الفرنك السويسري باليورو، الذي ترتب عليه تراجع معدل صرف الفرنك باليورو من 1.2 فرنك لكل يورو إلى نحو 0.85 فرنك، الأمر الذي يعني ارتفاع قيمة الفرنك السويسري بنحو 30 في المائة في غضون يوم واحد، قبل أن يرتد لاحقا إلى نحو 0.99 فرنك لليورو، وبمقاييس عملات الدول الغنية، فإن هذا الارتفاع يعد الأعلى على الإطلاق في التاريخ الحديث.

لم يتم الإعلان عن هذه الخطوة بأي صورة من الصور، إلى الحد الذي انتقدت فيه لاجارد رئيس صندوق النقد الدولي محافظ البنك المركزي بأنه لم يعلمها بنيته لفك الارتباط مع اليورو، أو حتى إعلام زملائه من محافظي البنوك المركزية الأخرى. فما الذي حدث، ولماذا اتخذ البنك الوطني السويسري هذه الخطوة، وما آثارها المتوقعة على سويسرا، وأخيرا لماذا تم فك الربط بشكل مفاجئ؟ في هذا المقال أحاول تحليل الإجابة عن هذه الأسئلة. بدأت القصة في 2011 عندما تزايد الطلب على الفرنك السويسري عالميا، الذي نظر إليه في ذلك الوقت على أنه أحد الأصول الآمنة في ظل ظروف الأزمة، حيث كان المستثمرون في العالم، وعلى رأسهم صناديق التحوط، يقبلون على شرائه بكميات كبيرة نتيجة لتراجع العملات العالمية، بصفة خاصة الدولار. اتخذ البنك المركزي عدة إجراءات فشلت جميعها في وقف ارتفاع قيمة الفرنك، وهو ما دفع البنك المركزي إلى ربط الفرنك باليورو، وذلك من خلال فرض أرضية سعرية لليورو عند 1.2 فرنك لكل يورو، وكنت قد تناولت الخطوة بالتحليل في مقال في جريدة “الاقتصادية” بعنوان “كبح جماح الفرنك السويسري”.

من الناحية العملية يمثل هذا الربط التزاما على البنك المركزي بالتدخل من وقت إلى آخر في حالات تزايد الطلب على الفرنك من خلال إصدار المزيد منه وشراء اليورو. بالطبع يترتب على هذه السياسة تحديد قيمة للفرنك أقل من قيمته الحقيقية، فتصبح الصادرات السويسرية من السلع والخدمات منخفضة بالنسبة لشركاء سويسرا في التجارة، خصوصا منطقة اليورو، وهو ما ساعد سويسرا على أن تصبح واحدة من أكثر دول العالم تحقيقا لفوائض في حسابها الجاري.

لم يؤد ربط الفرنك باليورو إلى انخفاض الطلب عليه، بل على العكس فقد أعطى استقرار قيمة الفرنك المستثمرين فيه ثقة أكبر، وقد تعزز ذلك في ضوء حقيقة أن سويسرا ليست من الدول المدينة، كما أن مخاطرها السيادية تنخفض بصورة كبيرة، فضلا عن أنها تعد أحد أهم الاقتصادات التنافسية في العالم.

لمواجهة هذا الطلب المتزايد على الفرنك اضطر البنك المركزي لشراء كميات كبيرة من اليورو للحفاظ على معدل الربط بين الفرنك واليورو. من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن تأخذ احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي في التصاعد، وهو ما حدث بالفعل، حيث تمكن البنك المركزي من جمع نحو نصف تريليون دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، ما ترتب عليه أن تراكمت محفظات البنك المركزي من السندات باليورو إلى نحو 80 في المائة من الناتج وهو معدل مرتفع جدا، خشي معه أن يرتفع معدل التضخم في سويسرا نتيجة هذا التوسع الكبير في الأساس النقدي. من ناحية أخرى، فقد كان هناك استفتاء بين المواطنين للسماح للبنك المركزي باستخدام احتياطياته من النقد الأجنبي لزيادة رصيده الذهبي، ولكن نتيجة الاستفتاء جاءت بالرفض، ففقد البنك المركزي فرصة لتحويل هذه الأرصدة من النقد الأجنبي إلى ذهب.

تتعدد الأسباب التي أدت إلى فك الربط، فمنذ أن بدأت المواجهة بين روسيا والغرب أصبح الفرنك السويسري أكثر العملات جاذبية للأثرياء الروس الذين أخذوا في نقل أموالهم من روسيا مخافة التأثيرات المصاحبة للمواجهة الغربية مع روسيا، كذلك حاول البنك المركزي وقف الضغوط على الفرنك من خلال انتهاج سياسات معدل الفائدة السالبة، وذلك بالنسبة لمودعات البنوك والمؤسسات المالية الأخرى لدى البنك المركزي، ولكن ذلك لم يؤثر في الطلب، ذلك أن التوقعات بارتفاع قيمة الفرنك تتجاوز فروق معدلات الفائدة السالبة بالنسبة للكثير من المستثمرين، من ناحية أخرى، فقد أصبح من الواضح أن مهمة الدفاع عن قيمة الفرنك أمام اليورو مهمة شبه مستحيلة، مع قيام البنك المركزي الأوروبي بانتهاج سياسة نقدية توسعية على نطاق أكبر متضمنة مجموعة من الإجراءات ترتب عليها استمرار تراجع اليورو، وأخيرا فقد كان الإعلان عن نية البنك المركزي الأوروبي ببدء موجة جديدة من التيسير الكمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث ترتب عليها تراجع إضافي في قيمة اليورو، ومن ثم حاجة أكبر من البنك المركزي السويسري إلى التوسع النقدي للحيلولة دون ارتفاع قيمة الفرنك، حيث بدا من المستحيل أن يتحمل البنك المركزي السويسري أعباء الدفاع عن الربط أمام موجة التيسير الكمي الأوروبي.

باختصار لم يكن أمام البنك المركزي السويسري خيار آخر سوى وقف ربط الفرنك باليورو، والسماح لمعدل صرف الفرنك بأن يتحدد من خلال قوى العرض والطلب في السوق، ولضمان التخفيف من آثار ارتفاع قيمة الفرنك في الاقتصاد السويسري اتخذ البنك المركزي خطوة معاكسة للتأثير سلبا في الفرنك من خلال خفض معدلات الفائدة السالبة على نحو أكبر من سالب 0.25 إلى سالب 0.75 في المائة لتحقيق هدفين في الوقت ذاته، الأول وهو أن يؤدي معدل الفائدة السالب إلى تخفيض الطلب على الفرنك فتقل قيمته، أو يحد من ارتفاع قيمته، من ناحية أخرى، فقد هدف البنك المركزي إلى أن يجبر البنوك على عدم إيداع فوائض احتياطياتها لديه، ومن ثم يضمن استمرار خطوط الائتمان مفتوحة للقطاعات المختلفة في الاقتصاد، حيث لا يؤثر ارتفاع قيمة الفرنك في تعميق التراجع في النمو الاقتصادي.

أما بالنسبة للآثار الأساسية لهذه الخطوة فقد تمثلت في ارتفاع قيمة الفرنك أمام اليورو بنحو 30 في المائة، قبل أن يتراجع معدل الارتفاع إلى نحو 20 في المائة في الوقت الحالي، ومن المتوقع أن يؤدي هذا الارتفاع في قيمة الفرنك إلى التأثير سلبا في النمو في اقتصاد تزداد درجة اعتماده على الخارج مثل سويسرا. فهناك اتفاق بين المراقبين على أن الأثر في التجارة السويسرية ربما يكون عميقا آخذا في الاعتبار الروابط التجارية الوثيقة بين سويسرا ومنطقة اليورو، حيث يتجه نحو نصف الصادرات السويسرية إلى المنطقة. صحيح أن سويسرا دولة صناعية ودولة متقدمة، ولكنها تتشابه في بعض الخصائص مع الدول الناشئة، من حيث ارتفاع درجة انفتاحها على العالم واعتماد اقتصادها الوطني على الصادرات من السلع والخدمات التي تشكل أكثر من 70 في المائة من ناتجها المحلي.

أكثر من ذلك فإنه عندما ترتفع عملة اقتصاد مفتوح بهذه المعدلات لابد أن تتراجع أسعار الأسهم على خلفية المخاوف من التأثيرات السلبية على حركة التجارة، حيث تمثل حركة التجارة مع منطقة اليورو أكثر من 50 في المائة من الصادرات السويسرية، وقد تراجعت الأسهم السويسرية بنحو 10 في المائة يوم اتخاذ القرار، وفقد السوق نحو 100 مليار فرنك في يوم واحد، وهي أكبر خسارة مني بها منذ 25 عاما، كذلك أدى التحرك المفاجئ للأسواق، إلى أن حقق بعض المتعاملين خسائر كبيرة، بينما حقق البعض الآخر أرباحا كبيرة، يعتمد على الوضع الذي اتخذه كل متعامل في السوق. غير أنه من المؤكد أن التحول عن الربط يعد بمثابة تصحيح لسياسة تحديد معدل الصرف للفرنك، من تحديده بأسعار أقل من الواقع من خلال تدخل البنك المركزي، إلى معدل يتحدد بصورة واقعية وفقا لقوى العرض والطلب.

وأخيرا لماذا اتخذ البنك المركزي هذا القرار بشكل مفاجئ، ولماذا لم يعط أي إشارات لنيته هجر سياسة الربط؟ واقع الأمر أنه لا يصلح أن يتصرف البنك المركزي بصورة تخالف ذلك، وأعتقد أنه لو انتهج البنك المركزي سلوكا مخالفا وذلك بالإعلان عن خطته فإن ذلك كان سيجر الأسواق للاضطراب بصورة أكبر حتى يتم تطبيق القرار، ولكان معدل ارتفاع قيمة اليورو هائلا مع تزايد المضاربات اللاتوازنية عليه.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *