أ.د. محمد إبراهيم السقا

عودة الدولار

في نيسان (أبريل) 2014 بلغ الرقم القياسي الشهري للدولار الذي يصدره الاحتياطي الفيدرالي 86.5 في كانون الأول (ديسمبر) 2014 ارتفعت قيمة هذا المؤشر إلى 95.3 وهو ما يعني ارتفاع الرقم القياسي الشهري لقيمة الدولار بنسبة 10.2 في المائة، حيث شهد الدولار الأمريكي ارتفاعا شبه مستمر في قيمته في 2014 والدولار اليوم في أعلى قيمة له منذ 2003 ومرة أخرى يقبل المستثمرون بتدافع كبير على الاستثمار في العملة الخضراء في العالم باعتبارها الملاذ الآمن حاليا من بين العملات المختلفة للدول الصناعية الكبرى، ومن بين عوامل كثيرة أدى هذا التدافع إلى الارتفاع المستمر في قيمة الدولار إلى كافة العملات في العالم وعلى رأسها اليورو في الوقت الذي تتقدم فيه أمريكا العالم الصناعي كصاحبة أعلى معدلات للنمو وأفضل أداء من الناحية الاقتصادية بعد الأزمة بفضل السياسات المتسقة التي اتبعتها أمريكا، خصوصا في المجال النقدي، لتعزيز مستويات النشاط الاقتصادي ومعالجة الأوضاع المتردية لسوق العمل.

الرقم القياسي لقيمة الدولار في مقابل العملات الرئيسة في العالم والشركاء الآخرين للولايات المتحدة في التجارة، هو مؤشر يحسب من خلال إعطاء وزن لكل عملة من هذه العملات في الرقم القياسي لقيمة الدولار، حيث يكون مجموع الأوزان 100، وتعتمد هذه الأوزان على وزن التجارة بين الولايات المتحدة والدولة صاحبة العملة في إجمالي التجارة الخارجية للولايات المتحدة، على سبيل المثال وفقا للموقف في كانون الثاني (يناير) 2015 يمثل الرينمنبي الصيني أعلى الأوزان في قيمة الدولار بوزن 21.3، يليه اليورو بوزن 16.4 ثم الدولار بوزن الكندي 12.7. وهكذا، أما أقل الأوزان فهو وزن البوليفار الفنزويلي 0.398 ويعد الريال السعودي العملة العربية الوحيدة التي تدخل في تحديد الرقم القياسي لقيمة الدولار وذلك بوزن 1.029، ولحساب الرقم القياسي للدولار يستخدم الوسط الهندسي لمعدلات الصرف الثنائية بين الدولار وعملات الدول التي تدخل في الرقم القياسي وعددها 26 عملة، مرفوعا إلى الوزن المعطى لكل عملة.

وفقا للبيانات المنشورة عن الاحتياطي الفيدرالي حول الرقم القياسي للدولار “المعدل بالأسعار” خلال عام 2014، حقق الدولار أكبر ارتفاع له في مقابل الكورونا النرويجية بنسبة 18. في المائة والكورونا السويدية بنسبة 16.8 في المائة، بينما ارتفع أمام الين بنسبة 15.3 في المائة، والريَال البرازيلي بنسبة 12.5 في المائة. أما أمام اليورو فقد ارتفع بنسبة 10.1 في المائة، والفرنك السويسري بنسبة 9.2 في المائة، والدولار الكندي بنسبة 5.4 في المائة، والدولار الأسترالي بنسبة 8.1 في المائة، والجنيه الاسترليني بنسبة 4.5 في المائة، أما أقل معدل للارتفاع فقد كان في مقابل دولار هونج كونج 0.01 في المائة تقريبا. باختصار، كل عملات العالم الرئيسة تتراجع أمام الدولار حاليا.

هذا الارتفاع في قيمة الدولار له آثار إيجابية وسلبية على الولايات المتحدة والعالم، فالدولار القوي يعزز من العوائد المتوقعة من الاستثمار في الأصول المالية الأمريكية، حيث يعد الارتفاع في قيمة الدولار أحد جوانب العائد على هذا النوع من الأصول، مقارنة بالأصول المقومة بعملات أخرى مثل اليورو، وهو ما يرفع من جاذبية الاستثمار في الأصول المالية الأمريكية مثل الأسهم والسندات الأمريكية التي تميل أسعارها نحو الارتفاع المستمر في هذه الأيام بفعل تزايد الطلب العالمي على الاستثمار فيها، على سبيل المثال ارتفع الطلب على السندات الأمريكية ذات استحقاق عشر سنوات في الأيام الأخيرة، إلى الحد الذي دفع بمعدلات العائد على هذه السندات إلى الانخفاض لأقل من 2 في المائة لأول مرة منذ فترة طويلة.

من العوامل التي تعزز الطلب على الأصول المالية الأمريكية أيضا الارتفاع المتوقع في معدلات الفائدة في أمريكا وذلك مع تزايد التكهنات ببدء قيام الاحتياطي الفيدرالي بسحب فوائض المعروض النقدي من الدولار، والسماح لمعدلات الفائدة الأساسية بالارتفاع عن مستوياتها شبه الصفرية في الوقت الحالي إلى مستويات أعلى مع استمرار تحسن معدلات النمو وتراجع مستويات البطالة على نحو واضح مقارنة بالوضع منذ بداية الأزمة، في الوقت الذي تعلن فيه البنوك المركزية الكبرى في العالم، مثل البنك المركزي الأوروبي والياباني والصيني، عن الاستمرار في انتهاج سياسات نقدية توسعية تحدث ضغوطا سلبية على معدلات العائد على الأصول المالية فيها، ما يجعل الأصول المالية الأمريكية أكثر جاذبية، وبالتالي يزيد الإقبال على الدولار، ونتيجة لذلك أخذت رؤوس الأموال الأمريكية التي خرجت من الولايات المتحدة بحثا عن عوائد أعلى ومخاطر أقل، خصوصا في عملات الدول الناشئة، في العودة مرة أخرى للولايات المتحدة، وأصبحت أسواق العملات في الدول الناشئة اليوم أضعف.

غير أن الدولار القوي له مخاطره وأضراره بالنسبة للولايات المتحدة أيضا، ذلك أن الارتفاع المستمر للدولار يعكس ضعف الاقتصاديات المنافسة لها، بصفة خاصة أوروبا واليابان والصين، التي تمثل أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وتراجع مستوى النشاط الاقتصادي في هذه الدول يحمل أخبارا سيئة للاقتصاد الأمريكي. حيث من الممكن أن تنعكس هذه التطورات سلبا على النمو الأمريكي وتعطل من مسيرة انطلاقه للخروج الكامل من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تجتاح العالم منذ سبع سنوات.

تعد الآثار السلبية للدولار القوي على التجارة الخارجية الأمريكية أهم الآثار، فارتفاع قيمة الدولار مع تراجع مستويات النشاط لدى شركاء الولايات المتحدة في التجارة يضع ضغوطا مضاعفة على الشركات الأمريكية التي تعتمد على التصدير إلى الخارج، خصوصا في القطاع الصناعي. فمن ناحية يؤدي ضعف النشاط في الخارج إلى انخفاض الطلب على الصادرات الأمريكية، ومن ناحية أخرى يؤدي ارتفاع قيمة الدولار إلى ارتفاع قيمة الصادرات الأمريكية بالنسبة للمقيمين خارج الولايات المتحدة فيؤدي ذلك إلى انخفاض الطلب على الصادرات أيضا، وحيث إن القطاع الصناعي الأمريكي يعتمد بصورة كبيرة على التصدير للخارج، فإن هذه التطورات تدفع بالصناعيين إلى البحث عن وسائل لخفض التكاليف لتعويض الارتفاع في الأسعار الناجم عن الدولار القوي، ومن بين هذه الأساليب تعزيز البحوث في مجال التكنولوجيا المكثفة لاستخدام رأس المال، الأمر الذي يحدث انعكاسات سلبية على الطلب على العمال وتزايد الضغوط في سوق العمل.

بالطبع لا يتوقف الأمر فقط على السلع الصناعية، وإنما على جميع السلع والخدمات الأمريكية، كالسياحة مثلا، حيث تحقق الولايات المتحدة عوائد سنوية من السياحة تقدر بنحو 200 مليار دولار، ومع الدولار القوي تصبح هذه أغلى بالنسبة للمقيمين خارج الولايات المتحدة، والعكس بالنسبة للسلع والخدمات التي تنتجها الدول المنافسة للولايات المتحدة، وهو ما يؤثر سلبا في تنافسية الولايات المتحدة، حيث يصبح الشركاء التجاريون للولايات المتحدة في موقف تنافسي أقوى، لذلك ينظر المسؤولون بقلق إلى هذا الصعود للعملة الخضراء لما له من مخاطر كامنة على التعافي الاقتصادي الأمريكي، بصفة خاصة من جانب الطلب على الصادرات. خارج الولايات المتحدة تتعقد أوضاع الشركات المدينة في الدول الناشئة نتيجة ارتفاع قيمة الدولار، حيث من المتوقع أن نشهد ارتفاعا في معدلات التوقف عن خدمة الديون بين هذه الشركات مع ارتفاع قيمة الدولار، كذلك من المتوقع أن تواجه بعض الدول الناشئة صعوبات في خدمة ديونها العامة المصدرة بالدولار، حيث سترتفع تكلفة خدمة الديون لهذه الدول، ومما يزيد من حدة الأثر زيادة عمليات الخروج للمستثمرين من أسواق هذه الدول. ذلك أن استمرار ارتفاع الدولار أمام عملات الدول الناشئة يعرض الدول الناشئة لمخاطر هروب رؤوس الأموال، وهو ما يؤثر سلبا في أسعار الأصول فيها.

عاد الدولار بعد أن ظل ضعيفا لفترات طويلة دفعت بالكثير من المراقبين بالمطالبة بالتنويع بعيدا عن الدولار بل والتخلص من الدولار كعملة احتياطي عالمية، والبحث عن عملة أكثر استقرارا للعالم، دون جدوى.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *