د. شفيق ناظم الغبرا

2015: بين المفاجآت والتحولات

عام 2015 سيكون حافلاً بالمفاجآت على صعيد العلاقة بين الدولة والمجتمع، كما بالنسبة الى العلاقة بين التعبير العنيف والسلمي. فما وقع مع حركات وثورات 2011 ما زال يتفاعل ويترك آثاراً مختلفة على الواقع العربي. وبينما تم استيعاب الموجة الأولى من الثورات، إلا أن الطبيعة الأمنية لأسلوب الاستيعاب تحولت إلى قوة دفع باتجاه العنف والإرهاب. إن الموجة الثانية للثورات والحركات العربية التي تتكون سُحُبُها، والتي تحاول دول عربية عدة تفاديها بواسطة الحل الأمني، ستستند في المستقبل إلى بطالة أكبر ونقص في لقمة الخبز والعدالة والحريات والأمن الاجتماعي في ظل تراجع كبير في قدرة المؤسسات الحكومية في العديد من الدول العربية على القيام بدورها السياسي والأمني بل والقضائي. لن تقع الموجة الثانية (التي لا يمكن التنبؤ بتوقيتها) في عام 2015، لكن هذا العام سيعيد الى الواجهة أسئلة الثورات الأساسية في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية.

سيكون عام 2015 عام تونس، فهي وحدها الجديدة والقادرة على بداية تحول ديموقراطي في دول الثورات. نموذج تونس يوازن بين الأمن والحرية وبين الحقوق والتنمية وبين التداول على السلطة والإجماع. في تونس تجربة جديدة مع مكانة الشعوب، فهناك برلمان هو الأقوى عربياً من حيث الصلاحيات والقدرات التي نص عليها الدستور الجديد، فهو مسؤول عن عدة هيئات مستقلة تنتخب من قبل البرلمان: واحدة للحريات الإعلامية وأخرى لوضع قانون عادل للانتخابات وثالثة للتنمية ورابعة للفساد وخامسة لحقوق الإنسان. صلاحيات الرئيس في تونس حددت، وصلاحيات رئيس الوزراء توسعت على حساب مركزية الرئاسة، كما أن المجتمع المدني التونسي هو الأقوى في العالم العربي. وفي تونس تيار إسلامي تحول نحو نموذج أكثر مرونة وأقل تركيزاً على الأيديولوجية. تراجع حركة «النهضة» الإسلامية في انتخابات تونس البرلمانية ليس هزيمة لهذا التيار بقدر ما هو تعزيز لإمكان الديموقراطية والتداول على السلطة بين تيارات المجتمع.

ولن يخلو عام 2015 من مكانة خاصة لتجربة المغرب، حيث يتوافر فيها تشارك نسبي ونقاش علني وآفاق مستمرة لتطوير إصلاحات الأعوام السابقة. ليس غريباً أن مؤتمر «فكر» الذي ترعاه مؤسسة «فكر» بقيادة الأمير خالد الفيصل، عقد لقاءه في العام 2014 في المغرب في ظل تعبير قيادة المؤسسة عن مدى تقديرها للتجربة المغربية بكل تنوعها السياسي. المغرب أخذ خطوات دستورية وسياسية منذ 2011 للتداول على السلطة والمشاركة. سيواجه المغرب في العام 2015 تحدي الحفاظ على هذه الخطوات وتطويرها، ففي المغرب تيار إسلامي ذو منشأ «إخواني» نجح في إنضاج تجربته والتحالف مع تيارات ليبرالية ويسارية.

ويخطئ من يعتقد من السياسيين العرب أن الحراك الشعبي العربي توقف، وأن الثورة المضادة استقرت في مكانها الراهن. كل الذي حصل في 2013 ثم 2014 يشبه أوضاعاً مرت بها الأنظمة السياسية في التاريخ، فالنظام العربي دافع عن نفسه بعد ثورات متسلسلة، وذلك وفق تصوراته الأمنية، بينما الأحزاب التقليدية المعارضة غير مستعدة وتعاني الضعف والاختراق. لكن هذا كله لم ينهِ جدلية التغير الأوسع في الإقليم العربي.

إن الحراك الشعبي العربي أكبر من تظاهرة في شارع وتجمع في ساحة، إنه حالة تعلّم نجد لها تعبيرات متنوعة في الفكر والفن والأدب والرواية وفي الشارع ومكان العمل والصحافة العلنية وتلك الأقل علنية. مصر بالتحديد من دون غيرها من الدول العربية تعيش حالة من الإنهاك السياسي والإداري، كما تعيد إنتاج دور الجيش في الاقتصاد. مصر من دون كل الدول ربما حققت تقدماً في بعض المجالات (مأزق الدين والدولة)، لكن هذا التقدم لا يرتقي إلى سرعة الحدث وكثرة الضغوط وعمق المطالب وحدّة الأوضاع وحالة المؤسسات. لهذا، فآفاق الحراك الشعبي الأكبر حجماً ليست بعيدة من مصر في العام 2015. سيبدو مأزق الإصلاح والتعديل والتغير والتسخين للموجة الثورية الثانية واضحاً في المشهد المصري في عام 2015. ويحق لقوى الثورة المضادة أن تعتبر مصر مفتاح استقرار النظام العربي القديم، لكن مصر ستكون هي الأخرى مفتاح النظام العربي الجديد. سيكون السؤال: كيف ستنتقل مصر ديموقراطياً وتنموياً؟

ستزداد الخطورة في عام 2015 في اليمن في ظل تقدم الحوثيين وتراجع غيرهم، ولكن في ظل ضرورات البحث عن معادلة تسمح لليمن بإنقاذ ما تبقى من الدولة، فما يقع في اليمن نتاج للتركيز المبالغ فيه عبر تاريخ طويل على قبيلة واحدة في زمن الرئيس علي عبدالله صالح (دور قبيلة حاشد)، وهذا حفز قبائل أخرى وتجمعات سكانية كبيرة لأخذ المبادرة.

لهذا سيكون عام 2015 مدعاة للتفكير في علاقة الدولة بالطائفة (سورية والعراق واليمن والبحرين وغيرها) كما وعلاقتها بالقبيلة والقومية واللغة. كل هذا يقود لمعرفة مدى قصور الدولة العربية الحديثة في تشريعاتها وانحيازاتها وعلومها وتعليمها وثقافتها وفلسفتها. لقد بينت الأحداث بدقة مدى ضعف الدولة وهشاشتها في المشرق العربي خاصة مع تلونها بألوان فئوية طائفية، وهذا يمهد لاستمرار الصراع حول هوية الدولة واستقلالها وحقوق المجتمع في دولة يجب أن تتعلم الحياد تجاه مواطنيها وهوياتهم المختلفة.

لكن عام 2015 استمرار لما سبقه، فالحرب على «داعش» (الدولة الإسلامية) مستمرة من قبل القوى المصطفة أمامها من دون تحقيق نتائج تتجاوز الاحتواء، فالجبهة المصطفة أمام «داعش» لا تملك رؤية موحدة تجاه الأوضاع المحيطة في سورية والعراق وإيران، فكيف يتحقق الانتصار بينما الأزمة السورية مشتعلة والصدام في العراق على العلاقة بينه وبين إيران وبين المكونات السنّية والشيعية في الواجهة؟ والواضح أيضاً أن النظام السوري سوف يستمر في تقدمه الشكلي الذي تعقبه تراجعات عسكرية. ويقع كل هذا في ظل تقلص القدرات الروسية الإيرانية بسبب تراجع أسعار النفط. وقد تكون المفاجأة في الحالة السورية وصول فئات من قلب النظام السوري إلى نتائج تفرض عليها التحرك لإيجاد مخرج سياسي عوضاً عن عسكري مسلح. المفاجآت ممكنة على جبهة النظام كما هي على جبهة المعارضة في سورية.

وبينما تستمر أسعار النفط في تشكيل حاجز ضغط على الإقليم، إلا أنها سوف تجعل قادة المنطقة وقطاعاً هاماً من مثقفيها أكثر وعياً بمخاطر الدولة الريعية. الدولة الريعية مكشوفة أمام تضخم مصروفاتها في كل مجال: عسكري وأمني ووظيفي. وما تراجع أسعار النفط إلا إنذار واضح لما قد يكون عليه الحال في ظل استمرار الاعتماد على هذا المصدر الناضب والمتأثر بالسياسة العالمية. «أوبك» اليوم لا تنتج من نفط العالم سوى الثلث، وهذا مؤشر لمدى التغير.

وستواجه الدولة الريعية مشكلة أكبر لو فرضت الضرائب ورفعت الدعم وقللت حصص التوظيف، لأنها ستتواجه للمرة الأولى مع اقتصادها النخبوي الضعيف الذي قلما ينجح في فتح الفرص الجادة أمام الشباب في القطاع الخاص. لهذا، ليس مستبعداً أن تبرز المسألة الاجتماعية والطبقية بين الفئات الشعبية الأكثر تأثراً بالتراجعات الاقتصادية إلى الواجهة. أزمة الدولة الريعية تنعكس في الوقت نفسه على دول شبه ريعية، كمصر والأردن. عام 2015 سيكون عام الاختلاف على شكل الحلول ومداها.

عام 2015 سيكون كذلك عاماً مؤثراً على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، فحرب غزة كانت الحرب الأهم في عام 2014، كما لا يمكن استبعاد إمكان حرب أخرى على غزة، وذلك في ظل سعي حركة «حماس» لفك الحصار وإعادة الإعمار. المسألة الفلسطينية ممتدة على كل الأرض حيث مقاومة الاحتلال في القدس والضفة الغربية ومقاومة العنصرية في فلسطين 1948. ومن الطبيعي أن تكون الانتخابات الإسرائيلية في آذار (مارس) 2015 حدثاً هاماً، وذلك من حيث مؤشرات السياسات الإسرائيلية القادمة. عام 2015 عام صراع، فإسرائيل استوطنت المكان ونشرت عنصريتها في كل الزوايا. إن مواجهة السيطرة والعنصرية والاستيطان في ظل التشارك مع كل من يقاطع ويواجه هذا الظلم على الصعيد الإنساني والعالمي، هو محرك المرحلة في فلسطين.

سيطرح علينا عام 2015 قضية الحريات بدرجة أكبر من عام 2014، وذلك في ظل الحاجة إلى القبول بالمساحة العامة كمكان محايد للقيم المؤيدة والمعارضة والرافضة والموالية. وسيزداد التناقض بين الكثير من القوانين الإعلامية الجديدة التي تحاول الحد من الثورة الإلكترونية، لكنها ستفشل في تحقيق مرادها. المنع كثقافة استمرار للقديم بينما يفرض الجديد نفسه بحكم تراجع دور الدولة عن التحكم بوعي الناس ومعارفهم. بين ثقافة الجيل الصاعد وثقافة النظام العربي تناقض سنجد له تعبيرات كثيرة في العام 2015.

في عام 2015 لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، والنظام العربي لن ينتصر من خلال تمسكه بما مضى ورحل. إن الانتصار الوحيد الممكن للنظام العربي مرتبط بمدى نجاحه في تبني حلم الشعوب العربية المرتبط بالمستقبل وبالحريات والديموقراطية والشفافية والتنمية والنزاهة والعلاقة المتكافئة بين الدولة والمجتمع. من دون هذا سوف يتعرض النظام العربي لحرب استنزاف طويلة مع أجيال تسكنها روح التمرد.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *