أ.د. محمد إبراهيم السقا

هل يمكن أن تستغني أوروبا عن المهاجرين؟

أعاد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قضية الهجرة إلى أوروبا بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والديموغرافية والدينية إلى الواجهة مرة أخرى. بشكل عام تعد النظرة العامة إلى الهجرة حاليا في أوروبا سلبية، وهناك دعوات أن تنغلق أوروبا على نفسها سكانيا وتغلق باب الهجرة إلى الداخل، ليس فقط من خارج أوروبا، وإنما أيضا من داخل أوروبا، على الرغم من أن التجارب السابقة أثبتت أن تيارات الهجرة إلى الداخل كانت آثارها الإيجابية أكثر من جوانبها السلبية بشكل عام، حيث ترفع من مستويات الإنتاجية وتعزز النمو وتوفر عرضا مناسبا للمهارات التي يعاني سوق العمل نقصا فيها.

الأوروبيون ينظرون حاليا للهجرة إلى الداخل نظرة قاصرة، ربما بسبب الضغوط التي تواجهها أسواق العمل فيها، أو لأنهم يرون فيها ضياعا لهويتهم وتهديدا لدينهم، على الرغم من أنه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حدثت أكبر موجات للهجرة من أوروبا إلى باقي دول العالم، خصوصا إلى دول العالم الجديد في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها من دول العالم. اليوم تواجه أوروبا تجربة مختلفة، حيث تشهد أكثف عمليات الهجرة إلى الداخل من باقي دول العالم، ومعظم دول أوروبا أصبحت اليوم دولا متعددة الأعراق والأديان، وهذا ما يقلق الكثير من الأحزاب والساسة.

من المعلوم أن أسوأ تأثيرات الهجرة غالبا ما تكون عندما يكون هناك انحسار اقتصادي، حيث تكون فرص العمل محدودة وترتفع معدلات البطالة ويتراجع الأداء الاقتصادي. في ظل هذه الظروف غالبا ما ينظر إلى المهاجرين على أنهم يسرقون وظائف المواطنين ويشكلون عبئا على الخدمات العامة والبنى التحتية وهيكل المساعدات الاجتماعية وذلك على حساب دافعي الضرائب في الدولة. لذلك أعتقد أن هذه النظرة السلبية إلى الهجرة مرتبطة أساسا بالأوضاع الاقتصادية السيئة، وأن تحسن الأوضاع الاقتصادية يمكن أن يعدل من وجهة النظر حيال الهجرة.

فالمجتمعات الأوروبية تعد خاملة سكانيا، بسبب انهيار معدلات الخصوبة فيها إلى مستويات أقل من المستوى الإحلالي للسكان، ما يعني أن أعداد السكان ستميل نحو التناقص في المستقبل إذا لم يتم تعويض الوفيات بسكان جدد سواء من خلال الإنجاب أو من خلال الهجرة، وبسبب الخمول السكاني تراجعت نسبة السكان في أوروبا إلى سكان العالم. ففي عام 1900 كان الأوروبيون يشكلون ربع سكان العالم، اليوم لا يزيدون على نحو 7 في المائة من سكان العالم، في المقابل تزداد نسب السكان في المجتمعات النشطة سكانيا، التي ترتفع فيها معدلات الخصوبة، وتستفيد من نتائج التقدم الصحي في خفض معدلات الوفيات بين المواليد.

ولكن هل من الممكن إغلاق باب الهجرة؟ ربما تبدو عملية السيطرة على تدفق المهاجرين غير القانونيين إلى أوروبا مسألة يسيرة، أخذا في الاعتبار أن البحر الأبيض المتوسط يمثل حاجزا طبيعيا أمام تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وأن استخدامه في الهجرة تصاحبه مخاطر عظيمة تدل عليها حالات الغرق الجماعي التي نسمع عنها من حين إلى آخر، ومع ذلك فإن هناك رصيدا ضخما منهم مستعد لتحمل هذه المخاطرة في سبيل أن ترسو به إحدى السفن على شواطئ أوروبا.

على الجانب الآخر تشير تجربة الولايات المتحدة إلى أن منع الهجرة غير القانونية يؤدي إلى تزايد أعداد المهاجرين وليس انخفاضهم، فقد أدى إغلاق الحدود أمام المهاجرين من المكسيك إلى دفع المهاجرين غير الشرعيين أن يصطحبوا عائلاتهم معهم أثناء رحلة الهجرة حتى لا يضطروا إلى العودة إليهم ومواجهة المخاطرة ذاتها مرة أخرى، مع أنه لو ترك المجال مفتوحا أمامهم لفضل الكثير منهم العمل في الولايات المتحدة وزيارة أهاليهم من وقت لآخر فتقل بالتالي أعداد المهاجرين. لكن فتح باب الهجرة على مصراعيه بالطبع له مخاطر عديدة في الدول المستقبلة.

تخضع نوعية المهاجرين أساسا لسياسة الهجرة للدولة، على سبيل المثال لا تسمح الولايات المتحدة بهجرة العمالة غير الماهرة إلا في حدود ضيقة، لذلك ينعكس تيار الهجرة بصورة إيجابية على الاقتصاد الأمريكي، ووفقا للإحصاءات فإن ثلثي المهاجرين إلى الولايات المتحدة من ذوي المهارات والمستوى التعليمي المرتفع، ذلك أن سياسة الهجرة الأمريكية مصممة أساسا لتستوفي احتياجات سوق العمل من المهارات اللازمة. لذلك عندما يتدفق المهاجرون إلى الداخل تأتي معهم مهاراتهم وتعليمهم ويضيفون المزيد من الديناميكية لقوة العمل وهيكل المهارات المتاحة وهو ما يعزز النمو. هذا لا ينفي بالطبع أن المهاجرين ذوي المهارات الأقل ليس لهم حاجة، فهؤلاء أيضا مفيدون لقطاعات مهمة في الاقتصاد مثل قطاع الزراعة أو قطاع الإنشاءات أو الخدمات، وهذه توفر وظائف غالبا ما يكون الطلب عليها محدودا من قوة العمل الوطنية.

على الرغم من محاولات الحد من الهجرة فإن دول أوروبا لن تجد سوى الهجرة سبيلا لإنقاذها من الكارثة السكانية التي تنتظرها، أبعاد هذه الكارثة تتمثل في انهيار معدلات الخصوبة، وارتفاع نسب الشيوخ إلى إجمالي أعداد السكان. النتيجة الحتمية لهذه التطورات هي ارتفاع معدلات الإعالة بين السكان في سن العمل، وفي ظل هذه الأوضاع لا سبيل أمام هذه الدول سوى استيراد السكان من الخارج عبر تخفيف قيود الهجرة، لمواجهة تلك التحديات، وبالتالي فكما أعلنت أوروبا رغبتها في حرية تدفق السلع والخدمات عبر الحدود الجغرافية للدول، فإن حرية تدفق البشر عبر الحدود ستصبح من القضايا المهمة لهذه الدول في المستقبل مقارنة بالوضع اليوم.

ذلك أن الماكينة الاقتصادية في أوروبا في القطاعات الإنتاجية والخدمية المختلفة تحتاج إلى المهاجرين، وبالانغلاق على نفسها تواجه أوروبا مخاطر تراجع مستويات نموها وتعقد أوضاعها السكانية والمالية. فأوروبا المستقبل تحتاج إلى عمال ودافعي ضرائب في الوقت ذاته، وهذه المشكلة لن يتم حلها سوى من خلال تبني سياسات أكثر تحررا في مواجهة الهجرة من الخارج.

يقيني أن دول أوروبا في المستقبل سوف تتنافس فيما بينها على تقديم الحوافز للمهاجرين من جميع أنحاء العالم، خصوصا من الدول المرتفعة النمو السكاني. فأوروبا تحتاج إلى المهاجرين من صغار السن والمتعلمين وذوي المهارات، فهؤلاء هم دافعو الضرائب في المستقبل والمعيلون للشيوخ من السكان.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *