إبراهيم المليفي

أوروبا عندما تبالغ

من العيب ألا تطرح أسئلة مثل من ولماذا لم تلتزم الدول التي شاركت في ثلاثة مؤتمرات دولية عقدت في الكويت للدول المانحة بالأموال التي تعهدت بتقديمها لتخفيف معاناة اللاجئ السوري؟ أيهما أكبر مساحة وقدرات على استضافة اللاجئين السوريين لبنان أم الجزائر النفطية؟

عندما تتحرك الآلة الإعلامية الغربية، يتحرك الرأي العام العالمي معها، وعندما يتعلق الأمر بدول الخليج النفطية يسيل لعاب بعض الإعلاميين العرب المصابين بداء “الحقد الأزلي” للعمل بضمير في إخفاء الحقائق، وإبراز بعض العيوب التي لا تخص عرب الخليج وحدهم، بل هي عيوب مشتركة ربطت جميع العرب كخيط “المسبحة”.
هناك جملة من النقاط المحورية من الضروري التوقف عندها: أولها، أن الإعلام الغربي يعلم جيدا مدى أهمية الصورة في هز المشاعر، ويعلم جيدا أن مسيرة الموت السوري فيلم طويل غني بالصور والمشاهد المأساوية، وعندما يحين الوقت كي تمارس دولهم فضيلة الإنسانية فلن تكون مهمتهم صعبة، وأول الغيث صورة الطفل الغريق التي طافت شهرتها أرجاء العالم، في حين لم تحظ صور اختناق سبعين لاجئا سورياً داخل شاحنة نمساوية بالقدر نفسه من الاهتمام رغم وجود أربعة أطفال بينهم، أحدهم لم يكمل عامه الثاني، وقبل كل ذلك هل نسينا قبل أكثر من عامين صور الأطفال الذين قضوا في الهجوم الكيماوي على بلدة خان العسل في ريف حلب، إذا كان المطلوب فقط التركيز على صور الأطفال؟
الإعلام الغربي لم يتلاعب بأرقام اللاجئين السوريين المتجهين الى أوروبا لكنه برع في إخفاء مئات الآلاف من اللاجئين الموجودين في تركيا والأردن ولبنان، والأخيرتان، كما يعلم الضمير الإنساني، تعانيان واقعا اقتصاديا مريرا لم يمنعهم من تحمل جزء مهم من أعباء المأساة السورية، لكن كل ذلك دفن مقابل إبراز صيحات الترحيب القادمة من بعض المسؤولين الأوروبيين وبعض من دفعتهم الإنسانية لتقديم العون لكل اللاجئين.
أوروبا التي ظهرت اليوم بأنها أكثر من يحنو على اللاجئ السوري وغيره قسمان: قسم شرقي متخلف خرج للتو من ظلام الكهف الشيوعي، ولديه إرث عميق من الكراهية لكل ما هو (عثماني) وقادم من تركيا، وهو قسم ما زال بلا خبرة في التعامل مع ملفات اللاجئين حتى لو كانوا لا يريدون من بلدانهم غير العبور فوق أراضيهم، وها هي هنغاريا تدوس معاهدة “شنغن” ومبدأ أوروبا بلا حدود عندما قررت إغلاق حدودها بوجه اللاجئين ومعاقبة من يعبرها، أما القسم الثاني الذي يفترض أنه الأغنى فجلّه ليس ألمانيا التي أعلنت على لسان نائب المستشارة الألمانية سيغمار غابرييل أنها “قد” تستقبل حتى نهاية هذه السنة مليون لاجئ من مختلف الجنسيات، في تناقض مع صرخات الورطة التي وقع فيها عمدة ميونيخ، عندما أعلن أن مدينته وصلت إلى حدودها القصوى في استقبال اللاجئين، ولابد على المناطق الألمانية الأخرى تحمل مسؤولياتها!!
أوروبا التي أعلن رئيس وزراء فنلندا تنازله بسخاء عن منزله الريفي ليقيم فيه عدد من اللاجئين السوريين ابتداء من يناير القادم أي بعد أكثر من ثلاثة أشهر قادمة، سقطت في حفرة الواقع بعد رفض عدد من دولها خطة الاتحاد الأوروبي نظام الحصص الملزم باستيعاب عدد من اللاجئين، ووقعت في فخ الـتأجيل لهذا الموضوع؛ لأن رفع يافطات الترحيب وتوزيع الطعام مجانا في محطات القطارات شيء، والتعامل مع موجات بشرية عالية شيء آخر، علما أن الرقم المتداول الآن 160 ألف لاجئ موجودون حاليا في المجر واليونان وإيطاليا مطلوب توزيعهم على 28 دولة حصة ألمانيا منها (31) ألفا فقط! نستخلص مما سبق أن أوروبا ليست كلها أوروبا وألمانيا ليست كلها صورة سيلفي مع ميركل.
قناة الـ”بي بي سي” العربية، “هيج” بعض عربها الرأي العام العربي ضد دول الخليج بطرح أسئلة “استغبائية” مثل: لماذا لا تتحمل دول الخليج الغنية جزءاً من مسؤولية أزمة اللاجئين السوريين؟ وما سبب إغلاق تلك الدول حدودها أمام السوريين؟ تلك الأسئلة من العيب الإجابة عنها عندما نستعرض ماذا عملت تلك الدول لمساعدة اللاجئين السوريين رغم أن كل احدة منها تضم جالية سورية عريضة، ومنها الكويت التي تضم 120 ألف سوري على أراضيها، والعيب هو ألا تطرح أسئلة مثل من ولماذا لم تلتزم الدول التي شاركت بثلاثة مؤتمرات دولية عقدت في الكويت للدول المانحة بالأموال التي تعهدت بتقديمها لتخفيف معاناة اللاجئ السوري؟ أيهما أكبر مساحة وقدرات على استضافة اللاجئين السوريين لبنان أم الجزائر النفطية؟
لقد تجاهل من تجاهل حقيقة أن حالة اللاجئين السوريين انتقلت من اللجوء الإنساني إلى حالة اللجوء الاقتصادي الذي يسير بانسيابية نحو الهجرة النهائية وطلب الحصول على الجنسية، لأن أزمة بلادهم تفاقمت وطال أمدها، وهم لا يستطيعون البقاء طويلا دون عمل مناسب يكفل لهم حياة طبيعية، ولن يرضوا ألا يحصل أبناؤهم على التعليم المناسب، لذلك اختاروا كسر جمود أوضاعهم، وركبوا الصعب لأجل العيش في بلدان تعهدت بمنحهم الحياة التي يحلمون بعيشها.
في الختام، لقد غرقنا في بعض التفاصيل وتركنا بعض الأسئلة المهمة؛ مثل من الذي رفض المقترح الروسي الذي يتضمن تنحي الأسد عن السلطة قبل 3 سنوات؟ أليست هي أميركا وبريطانيا وفرنسا آنذاك؟ ومن القادر على فرض حظر جوي فوق كامل التراب السوري لوقف براميل الموت وتدفق المزيد من اللاجئين، أليست هي الدول نفسها التي تزايد علينا اليوم بنيتها استقبال عشرين وثلاثين ألف لاجئ؟ لقد دخل الدب الروسي الملعب السوري بالعلن، ولم يحسب حسابا لجوقة من العاجزين عن المبادرة، وأوروبا وما يسمى أقوى دولة في العالم ما زالت مترددة.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

إبراهيم المليفي

كاتب ومحرر في مجلة العربي الثقافية منذ 1999 وصاحب زاوية الأغلبية الصامتة بجريدة الجريدة منذ 2010

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *