سعيد محمد سعيد

هيا بنا «نشجب ونستنكر»!

يبدو أن فن «الشجب والاستنكار» أصبح أحد الفنون واسعة الانتشار في المجتمعات العربية والإسلامية التي تواجه الأزمات تلو الأزمات، والويلات تلو الويلات، ولا تجد في مقدورها القدرة على التغيير الحقيقي الجذري لأزماتها إلا من خلال الشجب والاستنكار.

منذ 66 عاماً وبضعة أشهر، كان السلاح الأقوى الذي يمتلكه العرب والمسلمون في وجه الصهاينة منذ احتلال فلسطين هو الشجب والاستنكار والإدانة، حتى تحول هذا الفن في مرحلة لاحقة من التحولات السياسية إلى فن كريه ليس له جمهور، أو لنقل له جمهوره الذي أسسه وتبناه، وسيبقى مؤيداً للشجب والاستنكار فقط، ثم بعد ذلك، وصلت الأمة إلى ما هي عليه اليوم من أزمات شديدة الخطورة بسبب الاستبداد والتسلط والإرهاب.

وفي الحقيقة، كان الشجب والاستنكار والإدانة لهجمات الإرهاب الدموية في العراق، سورية، لبنان، وغيرها من أصقاع الأمة تأخذ طابع «المقرر التقليدي»، حتى بدأت نيران تلك الهجمات تصل إلى المجتمع الخليجي، ومع ذلك أصبحت عبارات وقوالب الشجب والاستنكار تصاغ بذات المعنى وإن كانت بأساليب مختلفة، لكن هي هي… مجرد شجب واستنكار، وكأن هذا المقرر المفروض لا يجب أن يعدو شكله الماضي والحالي وربما المستقبلي.

يتوجب علينا في الخليج والعالم العربي والإسلامي، أن نشجب ونستنكر كل الأفكار الطائفية والإرهابية، وندعي مواجهة التطرف والتشدد والخطاب الديني المدمر، ثم ندعو إلى الوحدة والتعاضد والأخوة والإسلامية، وبعدها يصدح خطباء ومثقفون وإعلاميون وناشطون ووسائل التواصل الاجتماعي بما يدغدغ العواطف تارةً، وبما يشكل حالة من تلون «الحرباء» تارات أخرى، إلا أنه من الصعب أن تكون واحداً من الصادقين والمخلصين إذا دعوت، خلاف الشجب والاستنكار، للنظر في جذور المشكلات والظواهر. نعم، مطلوب منك أن تشجب وتستنكر الطائفية والتكفير والتشدد، لكن احذر أن تطالب بالبحث في المسببات وعلاجها جذرياً، فأنت بذلك قد تكون ممن يسيئون إلى ولاة الأمر وإلى الحكومات وإلى الاستقرار الوطني. يكفي أن تشجب وتستنكر والسلام، أما أن تكون لديك أفكار تدفع الآخرين للنقاش معك بعمق فيما أوصل الأوضاع في المجتمع الخليجي تحديداً لما نحن فيه من تسلط وتسيد للمتطرفين والطائفيين والتكفيريين والمجانين الدمويين المتوحشين… فذلك ليس شأنك.

سيشارك معك في الشجب والاستنكار والإدانة، وربما البكاء، مجاميع كثيرة في حساب التغريد «تويتر» على سبيل المثال، حين تشتركون معاً في رفض الإجرام الإرهابي الدموي الذي يستهدف الأبرياء في المساجد والأسواق وسائر المواقع التي يذهب فيها مواطنون أبرياء، لكن سرعان ما تتحول حفلة الشجب والاستنكار إلى اتهامات طائفية تخلع عن الشجب والاستنكار المصنع حقيقته. فهاهنا يتصارع اثنان على أن الإرهاب شيعي أم سني؟ ثم يأتي كل طرف بأدلته وأسلحته وقنابله وتبدأ معركة شرسة عناوينها مخيفة: النواصب، الروافض، أولاد المتعة، الوهابية، أحفاد ابن العلقمي، شاتمو الصحابة وأمهات المؤمنين، السنة، الشيعة، وتتساقط الأمثلة باستخدام روابط «اليوتيوب» والخطب والمحاضرات، السليم منها والسقيم، الصحيح والمكذوب، الحقيقي والمزوّر، فيذهب الشجب والاستنكار في ستين داهية، ويبقى الصدام الطائفي في أشد من وضعه السابق، فتنكشف كل الأكاذيب التي صيغت عن الوحدة، الأخوة، التآلف، صيانة الوحدة الوطنية… هكذا هي الحقيقة، ومن يقول غير ذلك يخدع نفسه.

وقتما تنتشر رسالة صوتية أو متلفزة لأحد قادة الإرهاب والتكفير والطائفية والمجاميع التكفيرية التي تهدد كل الأمة، وتشير بأصبعها إلى تهديد مباشر إلى دول الخليج، بما فيها الحكومات والمكونات كلها بلا استثناء، يأتي التفريع المعهود: الروافض الشيعة كفّار نسأل الله أن يخلصنا منهم ومن شركهم. وكذلك، الويل للسنة المنبطحين للأنظمة الذي تركوا شرع الله والتفوا حول ولاة الأمر الظالمين. وما أجمل أولئك الذين يتفاعلون مع أوسمة يشارك فيها مغردون من أهل الخليج، بمختلف الطوائف والمكونات والمستويات الاجتماعية، ليعبّروا عن رفضهم لذلك الوحش الدموي الذي يهددهم ويهدد شركاءهم في الوطن، وتحلو الصدامات فيما بعد ليتم اتهام الشيعة، كل الشيعة، في قوالب الاتهام الشنيعة: انظروا إلى بشار وحزب الله وما يفعله العراقيون، وكأن الشيعة في الخليج مسئولون عن كل ما يجري في العالم الإسلامي بل وما يجري في الدنيا. وفي الطرف الآخر، تتوالى قوالب الاتهام الشنيعة ضد السنة: أنتم منبطحون للأنظمة المستبدة، أنتم حواضن «داعش» وأخواتها. أنتم من تقدّمون السلاح والمأوى والرعاية لأعداء الإسلام المتلبسين بالتكبير الزايف. وبعد مرحلة من ذلك التناحر، لن تجد معنىً حقيقياً للشجب والاستنكار وإدانة الإرهاب والطائفية والتكفير إلا معنىً واحداً: حشر مع الناس عيد!

الوضع في المجتمعات العربية والإسلامية خطير للغاية، والخطر بدأ يتصاعد في منطقة الخليج العربي، وكلما ازداد الخطر، كلما لمعت عبارات الشجب والاستنكار وعناوين الأسرة الواحدة والأخوة في الدين التي لا تسمن ولا تغني من جوع. أما ما عسى الحكومات أن تفعل لاستئصال التفكير والطائفية والإرهاب من جذورها، مؤسسيها، منشؤها، كتبها، مناهجها، خطبائها، وسائل إعلامها… فذلك ربما في آخر القائمة، وربما في الصفحة التالية. والتي ربما هي صفحة غير موجودة أصلاً! ورحم الله من شارك مع الحشود في الشجب والاستنكار… وجزاكم الله خيراً.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

سعيد محمد سعيد

إعلامي وكاتب صحفي من مملكة البحرين، مؤلف كتاب “الكويت لاتنحني”
twitter: @smsmedi

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *