أ.د. محمد إبراهيم السقا

الهند تتهيأ للانطلاق كقوة اقتصادية عظمى

بات من المؤكد اليوم أن الهند ستتجاوز الصين في معدلات النمو بدءا من العام الحالي، حيث يتوقع أن تحقق الهند معدلات نمو تتجاوز 8 في المائة سنويا وفقا لبعض التقديرات، وهو معدل استثنائي للنمو يمكن أن يضع الهند على رأس قائمة أكبر دول العالم من حيث مستويات الناتج في غضون عقود قليلة. أكثر من ذلك فقد أصبح من المؤكد أن الهند تحقق حاليا أعلى معدلات النمو في العالم، بحيث يتوقع أن يتجاوز معدل النمو فيها معدل النمو في الصين لهذا العام.

منذ أربعة عقود مضت كان متوسط دخل الفرد في الدولتين متساويا، غير أن الصين استطاعت أن تحقق معدل نمو متوسط بنحو 9 في المائة خلال فترة ربع القرن الماضية، ومنذ 1990 والنمو في الصين يتجاوز النمو في الهند بشكل مستمر، وحاليا يصل الناتج المحلي الإجمالي للهند نحو خمس الناتج المحلي الإجمالي الصيني، بينما يصل متوسط نصيب الفرد من الدخل في الصين أربعة أضعاف مستواه في الهند أو ربما أعلى قليلا.

اليوم ميزان القوى بين العملاقين الآسيويين يأخذ مسارا مختلفا، ففي الوقت الذي يتراجع فيه بشدة عزم النمو الذي تمتعت به الصين خلال ربع القرن الماضي، فإن عزم النمو في الهند يتسارع لتبدأ رحلة جديدة من النمو السريع على المديين القصير والمتوسط لتضيق بذلك الفجوة بين العملاقين.

ما يعزز احتمالات هذا النمو السريع أن مؤسسات التصنيف الائتماني والوكالات الدولية تعطي توقعات متفائلة جدا للاقتصاد الهندي في الوقت الحالي، وهو ما يجعل الاستثمار في الهند أمرا جذابا للمستثمرين من شتى أنحاء العالم. على سبيل المثال توقعت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن تحقق الهند معدل نمو 7.5 في المائة في العام الحالي، مع نظرة مستقبلية إيجابية، كما أعلنت الوكالة أنها سترفع تصنيفها الائتماني للهند إذا استمرت جهود رفع معدلات النمو التي تنفذها الحكومة في الوقت الحالي، وفي تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي الذي صدر في منتصف نيسان (أبريل) الماضي توقع صندوق النقد الدولي أن تحقق الصين معدل نمو 7.46 في المائة في 2015، ويستمر هذا المعدل في التزايد حتى يصل إلى 7.7 في المائة في 2019، ومن بين مجموعة دول الـ BRIC “البرازيل وروسيا والهند والصين” فإن صندوق النقد الدولي يرى أن الهند تمثل حاليا نجم هذه المجموعة فيما يتعلق بالنمو، وذلك أخذا في الاعتبار الظروف التي تمر بها الدول الثلاث الأخرى، فالنمو في الصين آخذ في التراجع، بينما تعاني روسيا والبرازيل ضغوط الكساد في الوقت الحالي، بينما كانت الهند هي الدولة الوحيدة التي رفع الصندوق توقعات النمو لها في المجموعة.

وفقا لتقديرات مركز التنمية الدولية في جامعة هارفارد حول آفاق النمو في الهند، من المتوقع أن تحقق الهند أعلى معدلات النمو للناتج في العالم خلال السنوات الثماني المقبلة بمعدل نمو متوسط 7.9 في المائة وذلك حتى عام 2023، متخطية في ذلك معدلات النمو التي يتوقع أن تحققها الصين. في المقابل يتوقع المركز أن تحقق الصين معدل نمو متوسط بنحو 4.6 في المائة خلال الفترة ذاتها، معنى ذلك أنه إذا صحت هذه التنبؤات فإن الهند ستحقق معدلات للنمو ضعف تلك التي تحققها جارتها الصين. أما بالنسبة لمعدلات النمو المتوقعة في المعدلات المتوقعة في الدول المتقدمة فتقل عن ثلث هذه المعدلات للنمو.

من ناحية أخرى، ففي تقديرات حديثة للأمم المتحدة في التقرير نصف السنوي عن الوضع الاقتصادي الدولي وآفاقه في 2015 الذي أصدرته شعبة تحليل السياسات الإنمائية في الأمم المتحدة، حيث تم وضع الهند على رأس قائمة دول العالم من حيث معدلات النمو المتوقعة لهذا العام الذي يتوقع أن يكون في حدود 7.6 في 2015 و7.7 في المائة في 2016، كذلك نشرت اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة وآسيا والمحيط الهادئ ESCAP تقريرا أشارت فيه إلى أن الهند ستحقق معدل نمو 8.1 في المائة هذا العام و8.2 في المائة في العام القادم، وهي أعلى التقديرات المتاحة من المؤسسات الدولية.

وفقا للمصادر الرسمية في الهند، أعلن وزير مالية الهند في لقاء له مع “فاينانشيال تايمز” أن معدل النمو في الهند من المتوقع أن يتجاوز 8 في المائة هذا العام، في إشارة إلى أن معدل النمو الهندي سيتجاوز لأول مرة معدل النمو الصيني، ماكينة النمو في العالم في الوقت الحالي. أكثر من ذلك فقد أوضح وزير المالية أن الإصلاحات الضريبية التي ستقوم بها الهند من شأنها أن معدل النمو السنوي بين 9 إلى 10 في المائة سنويا.

بالطبع مثل هذه التوقعات الاستثنائية ستدفع بالمستثمرين من جميع دول العالم لدخول الهند للاستفادة من ثمار النمو المرتفع والفرص التي تتيحها عملية تحرير الاقتصاد، وهناك دعوات لصناديق الاستثمار بمختلف أشكالها للتوجه نحو الهند.

هذا التغير في اتجاهات النمو في الهند يعد محصلة برامج الإصلاح الاقتصادي الجريئة التي تنفذها الحكومة الهندية في الوقت الحالي والتي تهدف إلى تحرير الاقتصاد الهندي، وعلى رأسها تمهيد البيئة لجذب الاستثمار الأجنبي. الهند تخطط حاليا لبدء برامج استثمارات عامة ضخمة في مجالات متعددة للبنى التحتية مثل الطرق ومشروعات الري لرفع معدلات نمو القطاع الزراعي في الهند، وخطوط السكك الحديدية، وفي الوقت ذاته بدء عمليات تخصيص استراتيجية لعديد من الأصول العامة، خصوصا تلك التي تحقق خسائر، لتخفيف الضغوط على المالية العامة للدولة، وتخفيف القيود البيروقراطية والمكتبية والتشريعية.

أكثر من ذلك فإن السياسات النقدية الهندية تستهدف السيطرة على التضخم في الوقت الحالي، فوفقا لمستهدفات التضخم التي يتبناها البنك المركزي الهندي، فإن معدل التضخم المستهدف في 2015 بنحو 6 في المائة، لكنه من المستهدف أن يتم خفض هذا المعدل المستهدف بحلول 2018، وحاليا يتراجع معدل التضخم بشكل واضح، والعملة تتحسن، بينما أصبح العجز التجاري الخارجي للهند أقل اليوم عما سبق وهو ما يعزز قوى النمو. كذلك من العوامل التي شجعت على النمو تراجع أسعار النفط، باعتبار أن الهند تستورد معظم وارداتها النفطية من الخارج، وكذلك أسعار السلع التجارية الأخرى وهو ما أدى إلى تحسن الوضع التجاري الخارجي، وتراجع معدل التضخم بصورة جزئية أيضا.

فرص استمرار النمو في الهند على المدى الطويل في رأيي أفضل من فرص الصين، لأسباب كثيرة أهمها الاستقرار السياسي الكبير الذي تتمتع به الهند بوصفها أكبر ديمقراطية في العالم، في الوقت الذي يسير فيه الاقتصاد الصيني في مسار مخطط بصورة شبه مركزية، يمكن أن تنقلب المعايير التي تحكمه في أي وقت مع انتشار أي قلاقل سياسية أو دعوات للمزيد من الحريات أو أي حراك شعبي معاكس.

غير أنه في المقابل وعلى الرغم من أن الهند اليوم في وضع مختلف تماما عما كانت عليه منذ سنوات قليلة ماضية، عندما كانت توصف بأنها اقتصاد هش، فإن الاقتصاد الهندي يمكن أن يتعرض لعديد من المخاطر التي يمكن أن تقف حجر عثرة أمام انطلاق قوى النمو فيه. من ناحية أخرى، كاقتصاد مفتوح، يشير تقرير البنك الدولي إلى أن الهند عرضة لمخاطر ارتفاع أسعار النفط وكذلك قيود النمو في العالم بصفة خاصة شركاء الهند في التجارة. من ناحية أخرى، تحتاج الهند إلى رفع درجة تنافسية صادراتها لكي تنافس في السوق العالمية للصادرات.

وفي تقرير حديث له عن الهند أشار البنك الدولي إلى أن هناك كثيرا من الإصلاحات ما زالت في الطريق وفي حاجة إلى الإسراع بها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تعزيز البنى التحتية بصورة أكبر ليس فقط في المدن الكبرى بل في الجانب الأكبر الهند، وإطلاق قوى الاستثمار الخاص، وتعزيز تنافسية الشركات الهندية، فضلا عن إصلاح النظام المالي، بصفة خاصة القطاع المصرفي لتدبير التمويل اللازم لقطاع الأعمال.

باختصار بدأ معدل النمو السريع في الهند في تجاوز المعدلات المتوسطة إلى المعدلات المرتفعة جدا للنمو، وقد كان النمو الهندي محصلة عدة عوامل بالطبع أهمها خطط الإصلاح الاقتصادي التي تطبقها الهند، وسعيها نحو حل المشكلات الضريبية مع المستثمرين، وخطط الحكومة لخصخصة بعض القطاعات الاستراتيجية في الهند وهو ما سيفتح المجال بصورة كاملة أمام القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي ليأخذ الدورة نفسها التي مرت بها الصين.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *