أ.د. محمد إبراهيم السقا

اقتصاديات الأوبئة

الطاعون الأسود، الإنفلونزا الإسبانية، الإيدز، سارس، إنفلونزا الطيور، إنفلونزا الخنازير، كورونا، إيبولا… إلخ أسماء يحفظها العالم جيدا، فقد نشرت الرعب بين أرجائه مهددة بأن تحصد أرواح مئات الآلاف أو الملايين من البشر، لولا الجهود الجماعية للحد من انتشار الأوبئة والسعي نحو إيجاد علاج حاسم لها.

ما إن يعلن العالم انتصاره على الوباء، حتى يأخذ الفيروس استراحة ثم يعود بالشكل ذاته أو في صورة مختلفة، فيبدأ انتشاره بين البشر مرة أخرى، وهكذا يتعرض العالم من وقت لآخر للأوبئة، فما الآثار الاقتصادية للأوبئة؟

تتعدد الآثار الاقتصادية للأوبئة التي أهمها بالطبع هو الفقد السكاني الناجم عن انتشار الوباء والآثار في النمو الاقتصادي، والتي من الممكن أن تكون جوهرية. فعلى الرغم من مضي نحو سبعة قرون على انتشاره في أوروبا، فإن آثاره ما زالت حاضرة في الذاكرة حتى اليوم. فقد قضى الطاعون الأسود على نحو 30 إلى 50 في المائة من سكان أوروبا في منتصف القرن الـ 14. كذلك لا يمكن أن ننسى الإنفلونزا الإسبانية التي حصدت أرواح 40 مليون شخص في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي. هذه الأرقام تفوق بالطبع الخسائر البشرية في الحروب العالمية، الأمر الذي يعكس القوة الجبارة التي تمتلكها الأوبئة في مواجهة سكان هذا الكوكب، التي لحسن الحظ استطاع الإنسان التخفيف من حدتها على نحو كبير اليوم.

بالطبع يتعاظم تأثير الوباء في السكان عندما لا توجد التسهيلات الطبية المناسبة أو الكوادر البشرية القادرة على التعامل مع الوباء، وعندما تنتشر الأمية ويقل وعي الأفراد بسبل تجنب الإصابة. قديما كانت الأماكن الموبوءة تترك لتواجه قدرها بنفسها حتى يطور الإنسان مناعته للوباء. اليوم ما إن يظهر فيروس جديد أو شكل مختلف لفيروس قديم، حتى تتضافر الجهود الدولية للبحث في كيفية محاصرة أخطار انتشاره، لذلك نجد أنه على الرغم من إصابة العالم أخيرا بأشد أنواع هذه الأوبئة فتكا مثل الإيدز أو سارس، فإن الخسائر البشرية الناتجة عنها كانت محدودة نسبيا، وعلى ذلك فإن الآثار المتوقعة للأوبئة في النمو ستعتمد في الوقت الحالي أساسا على الأثر الناجم عن تراجع الطلب الكلي في المجتمع المصاحب للوباء. فمن أين يأتي هذا التأثير؟

بشكل عام يعتمد تأثير الوباء على درجة انتشاره داخل المنطقة التي يصيبها وطول الوقت الذي يستمر فيه في الانتشار. عندما يصيب الوباء منطقة ما فإنه يحولها إلى منطقة أشباح حيث يتوقف التجول ويندر دخول الزوار إليها، وتتوقف الكثير من الأنشطة ذات الحضور الجماهيري الكثيف مثل المدارس والجامعات ودور السينما، كما تتعطل المصالح ويصبح جل اهتمام الدولة هو تدبير الرعاية الصحية المناسبة للمصابين بالمرض الذين أحيانا تلقي رعايتهم عبئا كبيرا على الدولة، وفي الحالات الحادة غالبا ما تنهار نظم الرعاية الصحية تحت الضغوط الناجمة عن الوباء، وبالطبع يتعاظم الأثر الاقتصادي في الدول المصابة عندما تكون مثل هذه الدول سياحية، حيث ينتشر الهلع من مجرد التفكير في زيارتها، وحيث يعتمد النشاط الاقتصادي في الدولة على قطاع السياحة ويعمل فيه جانب كبير من العمال، فإن ذلك يؤثر بصورة جوهرية في القطاع ومن ثم الناتج والنمو.

أكثر من ذلك فإن القيود على الانتقال والحركة التي تفرضها الحكومات سواء على الأفراد أو على المنتجات للحد من انتشار الوباء تؤدي إلى خفض النشاط الإنتاجي والتجاري في الدولة، كذلك قد تفرض الدولة حجرا صحيا على مناطق بأكملها وهو ما يؤثر سلبا في حركة النقل والتجارة بصورة جوهرية، وقد لا يقتصر الأمر على الدولة، وإنما قد تلجأ الدول المجاورة إلى حظر التنقل والتجارة مع جيرانها من الدول المصابة بالوباء. على سبيل المثال فإن التجارة غير الرسمية التي تتم عبر الحدود تمثل نسبا جوهرية من الناتج في غرب إفريقيا، حيث تراوح نسبتها بين 20 في المائة في حالة نيجيريا إلى 75 في المائة في حالة بنين. لقد كانت كل من سيراليون وليبريا تحققان معدلات نمو مرتفعة قبل انتشار وباء إيبولا، وتم تصنيفهما بين أعلى دول العالم من حيث معدلات نمو الناتج في 2013، غير أنه مع انتشار الوباء أخذت معدلات النمو في التراجع السريع.

من ناحية أخرى، يترتب على انتشار الوباء نشوء حالة من عدم التأكد في الاقتصاد ككل، وهو ما قد يؤثر في ثقة المستهلكين وقد يدفع حرص الناس على البقاء في البيوت لتخفيض مخاطر إصابتهم بالمرض إلى التأثير بشكل كبير في الإنفاق الاستهلاكي. الأخطر من ذلك أن الناس قد لا تذهب أساسا إلى أماكن العمل في المصالح والمحال والمصانع وغيرها من وسائل الإنتاج خشية الإصابة بالمرض أيضا، ما يؤدي إلى انهيار النظام الإنتاجي في المجتمع، كذلك تتأثر أنشطة تقديم الخدمات، خصوصا تلك التي يجتمع فيها عدد كبير من الناس. بالطبع هذا المناخ من عدم التأكد يؤثر في قرارات المستثمرين بالاستثمار نظرا لعدم تأكدهم حول تطورات الأوضاع محليا حاليا وفي المستقبل، وآثار ذلك في معدلات العائد المتوقعة على تلك الاستثمارات.

يتأثر أيضا كثير من الوظائف في أوقات الأوبئة، بصفة خاصة الباعة الجائلين ومقدمي الخدمات العامة الذين يعملون لحسابهم الخاص، حيث تكون مثل هذه الوظائف أكثر عرضة للوباء، كذلك يتوقف الكثير من المزارعين عن الذهاب لحقولهم، وهو ما قد يخلق أزمة في عرض الغذاء، ومع انتشار القلق حول توافر الغذاء ترتفع أسعاره. كذلك مع توقف الأفراد عن العمل تبدأ مشكلاتهم المادية، حيث تنقطع دخولهم، وفي غرب إفريقيا كان قطاعا الزراعة والتعدين أهم القطاعات التي تأثرت بوباء إيبولا.

بالطبع مع تراجع النشاط الاقتصادي في الدولة تتراجع إيرادات الحكومات من الضرائب وإيرادات الجمارك، في الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إلى المزيد من الإنفاق، خصوصا على الخدمات الصحية في أوقات انتشار الوباء. كما قد تفرض شركات الطيران حظرا على رحلاتها إلى تلك المناطق الموبوءة، مثلما حدث في حالة وباء إيبولا. أكثر من ذلك فإن الخوف من انتشار وباء إيبولا كان أحد نقاط القلق التي أثرت في أسواق الأسهم في العالم، وليس في الدول المصابة فقط.

قد يضاعف سلوك شركات الأدوية من آثار الأوبئة عندما تضع تلك الشركات أولوياتها على أسس تجارية، بوضع خطط البحوث والتطوير في ضوء الطلب المتوقع على الدواء، وبالتالي فإن أوبئة الفقراء قد لا تلقى اهتماما مناسبا من شركات الدواء لانخفاض العوائد المالية المتوقعة من مثل هذا الإنتاج، الأمر الذي يطيل أمد الوباء ويعمق من آثاره في المناطق المصابة. أكثر من ذلك فإن اهتمام شركات الأدوية بإنتاج لقاحات أو أدوية الأوبئة الطارئة غالبا ما يكون ضعيفا لأن الشركات تهتم باستدامة الطلب على الدواء ولا ترغب في إنتاج الأدوية التي يكون الطلب عليها مؤقتا. على سبيل المثال لقد ظل وباء إيبولا دون علاج لفترة طويلة لأن المناطق التي ينتشر فيها محدودة القوة الشرائية، حتى أصبح الوباء يهدد الدول المتقدمة ذاتها، فتصاعد الاهتمام الرسمي بالمرض من حكومات تلك الدول.

لذلك ليس من المستغرب أن نجد أن لقاحات وأدوية أمراض مثل الملاريا أو السل الرئوي لا تجد اهتماما مناسبا لدى شركات الأدوية على الرغم من أن هذه الأمراض تحصد أرواح الملايين حول العالم سنويا، في الوقت الذي نجد فيه أدوية ضغط الدم أو الكوليسترول متنوعة ومتعددة ومتطورة بصورة مستمرة. بالطبع شركات الأدوية لديها أيضا اعتباراتها الخاصة في هذا الأمر، ذلك أن الإنفاق على البحوث والتطوير في مجال الأدوية مكلف وشاق ويأخذ وقتا طويلا حتى يصبح الدواء مجازا، على سبيل المثال يقدر أن عملية التوصل إلى مضاد حيوي جيد قد تتكلف نحو مليار دولار، وهو بالتأكيد استثمار ضخم.

أحدث الأوبئة التي أصابت العالم هي وباء إيبولا الذي ضرب عدة مناطق في غرب إفريقيا، وقد أصاب نحو 25 ألف شخص مات أكثر من 40 في المائة منهم في الوباء في العام الماضي. هذا الأسبوع أعلن عن خلو ليبيريا، أكثر الدول التي أصيبت به، من الوباء، بعد مرور أكثر من 40 يوما على دفن آخر مصاب بالمرض، ومع ذلك فما زالت كل من سيراليون وغينيا تتعافى ببطء من الوباء. بالطبع من السابق لأوانه القطع بأن الإنسان قد انتصر على الوباء, خصوصا أن المستويات المعيشية المتدنية للسكان في المنطقة تساعد على نقل الوباء، غير أن الشواهد تتراكم مشيرة إلى أن الوباء ربما يغادر العالم في القريب العاجل بعد أن خلف آثارا عميقة في الدول التي أصيبت به.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *