أ.د. محمد إبراهيم السقا

«بتروباس» .. فضائح فساد بالجملة

الرشوة ربما تكون أحد الأساليب الشائعة في تسيير الأعمال في معظم دول العالم، وإن كانت طبيعتها ودرجة حدتها تعتمد على قوة النظام القانوني المطبق في الدولة وطبيعة مناخ الأعمال ودرجة تعقد البيروقراطية وشيوع مفاهيم الالتزام والشفافية والحكم الرشيد ودرجة نزاهة الساسة، وبشكل عام من المفترض أن تلتزم الشركات بالقوانين والقواعد المنظمة للمنافسة حتى تعطى فرصة عادلة أمام الجميع لأداء الأعمال، لكن المشكلة تنشأ عندما تلعب الرشوة دورا في ترسية الأعمال أو كأحد الأسلحة التي تستخدمها الشركات في الحد من المنافسة مع الشركات الأخرى، حيث يمكن للشركات التي تستخدم الرِّشا الدفع بمنافسيها خارج المضمار.

عندما تستخدم الشركة الرشوة كأحد أسلحتها فإن ذلك يعطي إشارة إلى تجذر الفساد في الشركة، الذي من الممكن أن تنعكس نتائجه بشكل خطير على المساهمين والمستثمرين فيها بل وعلى الاقتصاد بأسره. فضيحة شركة بتروباس تعطي أفضل مثال لهذه الحالة. «بتروباس» هي عملاق النفط البرازيلي وواحدة من أكبر شركات أمريكا اللاتينية، وقد شغلت العالم في الأشهر الماضية باعتبارها صاحبة أكبر فضيحة مالية في البرازيل، التي تعد إحدى دول أمريكا اللاتينية المعروفة بأنها إحدى بقع الفساد في العالم، حيث تواجه الشركات الأجنبية ضغوطا شديدة لدفع رِشَا لتسهيل عمليات اتخاذ القرارات لمصلحتها، أو لكي تكون قادرة على المنافسة في السوق البرازيلية.

بدأت عمليات الفساد في الشركة في 1997 عندما اتحدت مجموعة من شركات المقاولات بصورة غير رسمية لزيادة قدراتها التفاوضية في مقابل الشركة، التي لم يكن من الممكن أن تمارس هذا الدور إلا بعد أن انضم إلى هذا الاتحاد مديروها التنفيذيون، ما جعل هذا الاتحاد أقوى في مواجهة الشركة، ومن خلال تنظيم المنافسة فيما بينهم استطاعوا السيطرة على عمليات إبرام العقود التي تقوم بها الشركة، ولذر الرماد في العيون قدمت الشركة على مدى سنوات تبرعات للأحزاب السياسية بما فيها حزب العمال الحاكم، بهدف أساسي بالطبع هو غض الطرف عن المخالفات التي ترتكبها الشركة وتقديم نوع من الغطاء السياسي لها، وعلى مدى سنوات طويلة ظلت تئن الشركة تحت وطء الفساد دون أن يتحرك المسؤولون لوقف هذه المهزلة التي تتم أمام أعين الدولة، وتحولت الشركة لسوء الحظ إلى ضحية لمديريها التنفيذيين والساسة.

منذ بدء عمليات التحقيق في آذار (مارس) 2014 التي أطلق عليها «عملية غسيل السيارة»، تم تحويل أربعة مديرين تنفيذيين سابقين في الشركة، و23 مديرا تنفيذيا في شركات البناء إلى القضاء، بعضهم اضطر إلى الاعتراف بالجريمة سعيا وراء الحصول على حكم مخفف، بينما نفى الآخرون التهمة، أكثر من ذلك اتهم بعض المديرين التنفيذيين بالاشتراك في عمليات غسل للأموال تمت بالاتفاق مع متعاملين بالعملات الأجنبية وبعض المنتسبين إلى المنظمات الإجرامية لتبييض الأموال الناجمة عن الرِّشَا.

توصل المحققون إلى أن الشركات المتعاقدة مع «بتروباس» عمدت دائما إلى رفع الأسعار في العقود التي تبرمها الشركة النفطية، ثم يقوم المديرون المشتركون في العملية بالاستيلاء على الفرق بين السعر الحقيقي وبين الأسعار المدرجة في العقود، ليقتسموه فيما بينهم وبين بعض الساسة في الدولة، بما في ذلك بعض من ينتمون إلى الحزب الحاكم الذي تنتمي إليه الرئيسة الآنسة روسيف، وقد كان هذا السلوك يمارس على نطاق واسع، في ظل غياب الشفافية في الإفصاح عن العقود التي تبرمها الشركة.

أدت الفضيحة إلى تراجع أسهم الشركة لأكثر من 60 في المائة من قيمتها منذ أيلول (سبتمبر) الماضي، وقد كان التراجع الكبير لأسعار أسهم الشركة إشارة واضحة إلى حجم الفساد والتكلفة الفادحة التي تحملها مثل هذه الممارسات على متانة وضع الشركة، كما تعالت المطالبات للشركة بأن تعلن التكلفة الحقيقية لعمليات الفساد على القيمة الحقيقية لأصول الشركة التي تضخمت بالطبع قيمتها الدفترية نتيجة عمليات الرشوة، وقد دفع تأخر الشركة في إعلان مراجعاتها حساباتها في مؤسسة موديز لخفض التصنيف الائتماني للشركة وأعطت تصنيفا لديون الشركة يوازي السندات غير المرغوب الاستثمار فيها بسبب ارتفاع مخاطرها.

ترتب على الفضيحة مع التقييم المنخفض لديون الشركة من قبل «موديز» إغلاق أسواق المال أمام الشركة، خصوصا أن الشركة تعد أكبر الشركات النفطية المدينة في العالم، حيث تقدر «موديز» ديونها بنحو 170 مليار دولار، وقد جاء هذا الإغلاق في وقت حرج جدا بالنسبة للشركة التي تخطط لإنفاق استثماري بنحو 220 مليار ريال برازيلي حتى 2018.

كذلك جاءت النتائج المالية للشركة سيئة لدرجة إعلان الشركة أنها لن توزع أرباحا في 2014، نظرا للخسائر الفادحة في الأصول الناجمة عن فساد العقود. فقد قامت الشركة بالتعاون مع مراجعين مستقلين بتقييم أصول الشركة للتوصل إلى القيمة الحقيقية للأصول التي تم بناؤها خلال الفترة من 2004 حتى 2010 ومقارنتها بالقيمة الدفترية لهذه الأصول، التي أثبتت أن القيمة الحقيقية لهذه الأصول تقل عن القيمة الدفترية بنحو 17 مليار دولار، وهو ما اضطر الشركة إلى شطب هذه القيمة من دفاترها لكي تعكس القيمة الحقيقية للأصول بعد أن تم تضخيم قيمة هذه الأصول نتيجة عمليات الفساد التي شابت العقود التي وقعتها الشركة.

لسوء حظ الحزب الحاكم أن الفضيحة تأتي في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد البرازيلي ضعفا اقتصاديا واضحا لعدة سنوات، حيث يتراجع النمو على نحو كبير، ونظرا لعمق الفضيحة فإن آثارها لم تقتصر على أرباح الشركة أو حتى أسهمها، إنما سحبت الاقتصاد البرازيلي بأكمله نحو التراجع، ففي تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي الصادر هذا الشهر أشار صندوق النقد الدولي إلى أنه قام بمراجعة توقعاته حول النمو في البرازيل الذي سيتأثر بالفضائح المالية لشركة بتروباس، وقام بتخفيض هذه التوقعات.

اليوم يتوقع أن تغوص البرازيل بشكل أكبر في الكساد نتيجة هذه الفضيحة، لأن قطاعين رئيسين في الاقتصاد البرازيلي تأثرا بالفضيحة هما قطاع النفط وقطاع البناء، حيث تأثرت التوقعات المستقبلية لنمو هذين القطاعين سلبا، وهو ما انعكس على مستويات الإنفاق الاستثماري في القطاعين على نحو واضح وانخفضت عمليات التوظيف في الاقتصاد البرازيلي بالتبعية واتسع نطاق عمليات الإفلاس بين الشركات في البرازيل.

كذلك يواجه الاقتصاد البرازيلي أزمة انخفاض قيمة عملته بصورة جوهرية حاليا في الوقت الذي ترتفع فيه معدلات التضخم كنتيجة لذلك، مع تراجع معدلات النمو، وهذا الوضع يعقد الاختيارات المتاحة أمام صانع السياسة الاقتصادية، فلكي يحافظ البنك المركزي على العملة من التدهور قد يلجأ إلى رفع سعر الفائدة لكي يرفع قيمة العملة وفي الوقت ذاته يسيطر على الإنفاق الكلي ويخفض الضغوط التضخمية بالتبعية، لكن هذا الإجراء سيعقد من وضع النمو في الاقتصاد ويعمق الكساد الحالي الذي يمر به الاقتصاد البرازيلي. أكثر من ذلك فإن هناك احتمالا كبيرا أن تتدخل الحكومة البرازيلية لكي تسدد جانبا من ديون الشركة أو جزءا من ديونها باعتبار أنها المالك الرئيس للشركة، ويتوقع عندما تقوم الحكومة بذلك أن يتراجع تصنيفها الائتماني.

دفعت الفضيحة البرازيليين إلى التظاهر في الشوارع الذي شمل البرازيل بأكملها، في دعوة لإعادة هيكلة إدارة الشركة، بعد أن سمحت الحكومة لفترة طويلة بهذا النمط من الفساد، الذي بالطبع يؤذي مستثمريها بالدرجة الأولى، وفي دعوة لتأكيد أهمية الإفصاح وكشف جميع تفاصيل العقود التي تبرمها الشركات الحكومية، لأن الشركة وقعت ضحية مخططات للرشوة على نطاق واسع، وهو ما أحدث أزمة سياسية كبيرة للآنسة روسيف، واهتزت صورتها العامة إلى أدنى مستوياتها منذ فوزها بالرئاسة، خصوصا أنها رأست الشركة عبر الفترة من 2003 حتى 2010، وعلى الرغم من نفيها الشديد علمها بالفساد فإن أحدا لا يصدقها.

باختصار إن فضيحة «بتروباس» تعد رسالة قوية للشركات، بصفة خاصة الضخمة منها، التي تتخذ من الرشوة سلوكا قد تكون نتائجه مكلفة للغاية للشركة ولمساهميها، ولمديريها التنفيذيين بل والاقتصاد ككل.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *